لم تتمتع قيادات الإخوان، والحركات الإسلامية عموما، بمساحة حركة مثلما يحدث فى بريطانيا. لذلك فقرار ديفيد كاميرون رئيس الوزراء أخيرا، بإجراء تحقيق عاجل حول أنشطة الجماعة هناك، يستحق الوقوف عنده من عدة زوايا. من حيث الزمان، ترددت معلومات قوية خلال الأيام الماضية بشأن عزم قطر، ترحيل عدد من قيادات الإخوان إلى جهات معلومة، بينها بريطانيا، بهدف تخفيف حدة الضغوط الخليجية الواقعة على الدوحة. والمثير أن السفارة القطرية فى لندن تولت مهمة ترتيب إقامة نحو ثلاثة فعلا، وحصلت لهم على تسهيلات قانونية استثنائية وبسرعة. وبدأت الدوحة خطوات نقل مجموعة أخري، لكن وسائل إعلام بريطانية وعربية تصدر فى لندن، تلقفت الموضوع ونبشت فى جذوره، وأثارت عاصفة من الانتقادات ضد حكومة كاميرون واتهمتها بالتواطؤ، فهى تدعى الحفاظ على الحريات وحقوق الإنسان، وتمنح شخصيات متهمة بالإرهاب فى بلدانها لجوءا سياسيا، وتزعم عدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول الأخري، وتفتح منابر وتسمح لحناجر بالحض على التطرف. من حيث المكان، قرار كاميرون جاء متزامنا مع محاولات إخوانية- قطرية لإطلاق سلسلة من وسائل الإعلام، المرئية والمقروءة، على أن يكون مقرها لندن. وتستفيد من التعاطف البريطانى الرسمى مع الإخوان، والذى بدا فى مواقف متعددة، سعت خلالها لندن إلى ممارسة ضغوط مباشرة وغير مباشرة على مصر، استهدفت الإضرار بمصالحنا، على أن يتم توظيف العناصر الإسلامية الموجودة هناك، ومعظمها كوادر كانت حركية ثم تحولت إعلامية، لتوفير المزيد من الحشد لحساب مواقف الإخوان السياسية، ومحاولة المتاجرة والتضخيم من أى أخطاء بسيطة تقع فيها الحكومة المصرية، بل وافتعال حرب شائعات تتولى عملية الشوشرة على ما تحققه خريطة الطريق من تقدم ملحوظ، وتقوم وسائل الإعلام الجديدة والقديمة بالترويج لها، ونقلها إلى مثيلتها فى بعض الدول الغربية، خاصة أن هناك أرضية مهيأة لاستقبال الدعايات المغرضة، والتى عكستها تقارير منظمات حقوقية مختلفة، معظمها تبنت وجهة نظر الإخوان. الواقع أن قرار كاميرون لم يأت من فراغ، حيث لقى عدد من السياح الأجانب مصرعهم فى مصر، بفعل الإرهاب الذى يقترفه الإخوان وحلفاؤهم. وتعالت أصوات من يحذرون من عدم استبعاد أن تتعرض بعض الدول الغربية، وفى مقدمتها بريطانيا، لغزوات جهادية رمزية، فى ظل تصاعد دور المتشددين فى سوريا وليبيا، وتوفير غطاء تركى لهم. وكلها دول لا تبعد كثيرا عن سواحل أوروبا. كما أخذت عناصر متطرفة على عاتقها مهمة إلقاء القذائف الثقيلة والمغرضة من لندن، التى إذا صمتت عليها، فستكون فى نظر مصر وغالبية دول العالم متواطئة رسميا مع هذا الفريق، الذى استغل مساحة الحركة الإيجابية التى يمنحها القانون لمن يقبعون على أرض بريطانيا. وإذا تحركت يمكن أن تخدش قطاعا من المواطنين يعتقد أن ما يمارسه المتطرفون نوعا من أنواع التعبير عن الرأي، وبدلا من أن توجه المدفعية طلقاتها الإعلامية والسياسية إلى مصر يتم توجيهها إلى صدر كاميرون. ولدى هؤلاء بعض وسائل الضغط الجبارة. أبرزها، التغلغل فى أوساط مسلمة بريطانية كثيرة، يمكن تأليبها على حزب المحافظين الذى ينتمى إليه كاميرون ويواجه تحديات بالجملة. والضغط الاقتصادي، حيث يملك عدد من قيادات الإخوان مؤسسات استثمارية ضخمة، قد يؤدى توظيفها إلى التأثير سلبا على بعض الشرائح الاجتماعية. ناهيك عن بعض وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية، التى تتشدق بالحرية والعدالة، ويمكن أن توجه سهامها إلى كاميرون فتزيد الأزمة سخونة أمامه. لذلك اختار رئيس الحكومة حلا وسطا للتعامل مع الموقف، ورمى الكرة فى ملعب أجهزة الأمن والمخابرات لتتولى التحقيق، وإثبات مدى علاقة من يقيمون فى بريطانيا بالإرهاب الذى يمارس فى مصر. عمليا لن تجد هذه الأجهزة أدلة مادية قاطعة، لأن معظم المقيمين يعرفون دهاليز وخبايا القانون، ويتحركون فى النطاق السياسى والإعلامى والحقوقي. وبالتالى لا توجد علاقة وظيفية يمكن إثباتها تربط بينهم والعنف والإرهاب الذى يمارس فى مصر. وتحرك كاميرون ينطوى على رغبة فى ضرب عصفورين بحجر واحد. الأول، تهدئة خواطر الحكومة المصرية التى تتحرك دبلوماسيا، وأبدت إنزعاجا من التصرفات البريطانية، وفتح نافذة للتنصل منها عندما تستقر الأمور تماما، بعد إنجاز خريطة الطريق، التى أوشكت على الانتهاء. والثاني، رسالة تحذير للقادمين الجدد إلى لندن، تقول إنها لن تقبل بتجاوزات منهم، قد تعرضها لمزيد من الحرج مع مصر ودول خليجية، واستقبالهم لا يعنى منحهم «شيكا على بياض» بحرية الحركة، والقيام بما يحلو لهم من أفعال وأقوال. الحاصل، ان تصرف كاميرون أثلج قلوب البعض، وبنوا عليه سيناريوهات تدعو إلى التفاؤل، واقتراب طرد الإخوان من لندن، وعواصم غربية مختلفة. فى حين التمعن فى القضية يؤكد أن هذه الخطوة هى رسالة تطمين وتحذير رمزية، لأن جوهر السياسة البريطانية لم يتغير تجاه الإخوان، ويدور فى الفلك الأمريكى الداعم لهم. إذا أرادت لندن أدلة على حجم الإرهاب يكفى أن تطل على مشاهد العنف التى تمارس فى بعض الشوارع والجامعات المصرية. وطلب التحقيق يعد فقط «زوبعة فى فنجان»، هدف كاميرون من ورائه إرسال إشارات سياسية لمن يهمهم الأمر. لمزيد من مقالات محمد ابو الفضل