فى يوم الاثنين الماضى بدأ مجمع اللغة العربية مؤتمره السنوى فى دورته الثمانين، متخذًا من موضوع «التعريب» عنوانا له، ومجالا لكل أبحاثه ودراساته. وقد سبق للمجمع تناول هذا الموضوع فى مؤتمر سابق، لكن المجمع يعود إليه ويؤكد موقفه - وموقف سائر المجامع العربية منه - باعتباره قضية قومية بالنسبة لنا وللغة، بل هو قضية حياة. وحاجتنا إلى التعريب قائمة مستمرة، مادمنا نسعى جميعا إلى أن تكون لغتنا صالحة لخطاب العصر، وافية بكل مطالبه واحتياجاته. مدركين أن للتعريب مشكلاته، لكنه يظل جوهريًّا وأساسيًّا فى تحقيق التنمية اللغوية، وإثراء اللغة بكل ما يضيف إليها، ويوسّع من متنها ومن آلياتها. وحاجتنا اليوم إلى التعريب ألزم وأشدّ، بالرغم من الموقف السلبى الذى اتخذته لجنة قطاع الدراسات الطبية بالمجلس الأعلى للجامعات - فى يناير الماضى - حين أوصت برفض مبدأ تعريب العلوم، وهو موقف يخالف وثائق مصر الدستورية التى تنصّ على وجوب التعريب، كما أنه موقف يمثل خروجًا على كل ما انتهى إليه الرأى والعزم - لدى مجمعنا وسائر المجامع العربية - ومن بينها على سبيل المثال، المجمع السورى الذى انتهى من تعريب العلوم الطبية. ويأتى هذا الموقف الغريب من قطاع لجنة الدراسات الطبية بالمجلس الأعلى للجامعات، ردًّا على الاقتراح الذى اتخذه مجلس المجمع فى أكتوبر الماضي، وقدّمه إلى وزارة التعليم العالي، مطالبًا بإنشاء مركز لتعريب تدريس العلوم - فى المستوى الجامعى - وهو أمر لن يتوقف المجمع عن المطالبة بضرورة تحقيقه، فهو فى صميم رسالة المجمع، وصميم رسالتنا القومية من أجل اللغة العربية. لقد نسى هؤلاء، أو تناسوا، أن التعريب قام وازدهر فى عصور العربية الأولى - وبخاصة فى العصر العباسى - وبفضله أتيح للغتنا قدر هائل من الثراء، ولحضارتنا العربية الإسلامية نصيبها الأوفى من الازدهار والتقدم. لذا فإن مطالبتنا به، وتأكيدنا ضرورته اليوم وغدًا، يدخل فى صميم عملنا من أجل تحديث اللغة العربية، والإسهام فى مجال التفاعل الحضاري، بالإضافة إلى سعى مجمعنا، وبقية المجامع العربية من أجل توحيد المصطلح العلمي، وتنسيق جهود المجامع والهيئات العلمية المعنية باللغة العربية، من أجل لغة وافية باحتياجات العصر، ملبِّية لطموحاته وتطلعاته، مسايرة لنهضته وتقدمه. ذلك أن هذه الدورة المجمعية الجديدة، جديرة بأن يطلق عليها دورة الإنجاز. وهو يشمل كل ميادين العمل المجمعي، وينطق بما تحقق فيه، وبما هو - أيضًا - وشيك التحقيق. ففيما يتصل بعمل المجمع فى تحديث «المعجم الوسيط» - الذى يمثل تاج المعاجم العربية الحديثة، ودرة الإنجاز المجمعى فيها - يوشك عمل اللجنة العلمية القائمة عليه أن ينتهى بانتهاء هذه الدورة المجمعية ليأخذ طريقه حثيثًا إلى المراجعة، تمهيدًا لطبعه ونشره. وهو تحديث يستمد أهميته البالغة من حيث كونه التحديث الأول فى تاريخ هذا المعجم الذى يستعمله الجمهور منذ أكثر من نصف قرن دون أى تغيير فى مادته. وها هو ذا يُحدّث، بالإضافة ويُحدَّث بالحذف، ومن بين ما يضاف مادة لغوية عصرية ومصطلحات حديثة وتراكيب جديدة، وإضافات شتَّى قامت بها لجان المجمع - طوال هذه المدة - اختير منها ما يلائم تحديث الوسيط. كما حذف منه ما يسمى باللغة المماتة، التى أصبحت خارج دائرة الاستعمال، وأصبح وجودها يمثل عبئًا على المعجم، الذى أراد له واضعوه - من المجمعيين الأوائل - أن يكون وسيطًا بين الماضى والحاضر، ووسطًا بين المعاجم القديمة والحديثة، لا يكون صورة من المعاجم القديمة الملأى بالتفاصيل، وبما لم يعد فيه غَناء، ولا يتحقَّق معنى الوسيط والوسط إلا بالانفتاح المستمر على كل ما هو جديد، والتخلص المستمر من كل ما هو مُمات. وسوف تصدر طبعته الجديدة فى حجم يعادل حجمه الحالى مرة ونصف مرة. أما المعجم الكبير - الذى بدأ العمل فيه منذ أكثر من سبعين عامًا- فقد صدرت منه حتى الآن تسعة أجزاء تضم الحروف من الهمزة إلى القسم الأول من حرف الراء، وقد كان الإنجاز فيه يتم وفقًا لقدرة اللجنة المنوطة به على الأداء، وهى لجنة لم تقصّر قط، لكن عدم تحديد نهاية مرجوة أو مفترضة للانتهاء منه أدّى إلى أن يبطؤ الإيقاع، وإلى تساؤل لدى من ينتظرون الانتهاء منه، وهل ينتهى العمل فيه فى زمان أحفادهم؟ من هنا جاء قرار المجمع فى العام الماضي، وإعلانه عن ضرورة الإسراع فى الإنجاز - مع المحافظة على منهجيته ومتطلباته، وما يلزم له من حسن إعدادٍ وتنسيق، بحيث لا يستغرق باقى العمل أكثر من خمس سنوات، وسرعان ما أصبحت اللجان العلمية للعمل فيه أربعًا بعد أن كانت لجنة واحدة، واحتشد للعمل فى هذه اللجان الأربع صفوة من أعضاء المجمع وخبرائه ومحرريه، الأمر الذى أدى وسوف يؤدى إلى طفرة فى الانتهاء منه، طبقًا للخطة الموضوعة لتحقيق إنجاز المعجم الكبير.كما تم العمل فى المعجم الموضوعى المصور للطفل العربي، ويدور الاتفاق الآن بين المجمع ودور النشر المتخصصة، حول طباعته ونشره، بالصورة التى ارتآها المجمع محققة لأهدافه ولرسالة المعجم ذاته، ومن بينها أن يكون معجمًا ناطقًا، يساعد الطفل على الضبط السليم والنطق الصحيح. وكذلك العمل المجمعى فى معجم لغة الشعر العربي، فهو بدوره ليس بعيدًا عن هذا كله من حيث الإيقاع الزمني، والحرص على تحقيق الأهداف المرجوة منه، بوصفه أول معجم فى العربية يُخضع لغة الشعر للدراسة والتحليل. وقد أوشك الجزء الأول من هذا المعجم على الاكتمال، - وهو الخاص بحرف الهمزة - الذى سيكون جاهزًا ومعدًّا للطبع فى نهاية هذه الدورة المجمعية. كما قامت لجنة اللغة العربية فى التعليم بدراسة شاملة لمشروع الشهادة الدولية فى اللغة العربية، بعد أن كان مجرد اقتراح من الدكتور حسن بشير صديق - عضو المجمع المراسل عن السودان - منذ أكثر من عامين - وقد توصلت اللجنة بعد طول استعراض ومناقشة إلى صيغة وآليات للعمل، ستقوم به لجنة مختصة - تضم صاحب الاقتراح - لإطلاقه وتنفيذه بالمشاركة مع سائر الهيئات المعنية: مصرية وعربية ودولية. لقد كان من إنجازات المجمع الأخيرة - فى مجال المعاجم العلمية - صدور أول «معجم للحشرات» وهو أول معجم يصدر فى هذا المجال باللغة العربية، يضم جهود لجنته العلمية على مدى عشرين عامًا متصلة، وسبقه إلى الظهور معجم التاريخ والآثار، ومعجم الجغرافيا، ليسدّا فراغًا كبيرًا فى المكتبة العربية، والمعجمية بصفة خاصة - وهما معجمان يمتلئان بكل ما أنجزه المجمع على مدار تاريخه الطويل، وفى الطريق معجمان جديدان للأدب والفنون الجميلة يصدران خلال الشهور القديمة. لقد أعدّ مجمع اللغة العربية عُدَّته لدورة مجمعية حافلة، ملأى بالإنجاز، وحافلة بالمتطلبات العلمية واللغوية الضرورية والاحتياجات المتجددة، وهو قادر - بما يمتلكه من عزم وإرادة وجهد موصول، من علمائه وخبرائه ومحرريه - على القيام بدوره المنتظر والمأمول، فى خدمة اللغة العربية، وإثراء الحاضر الثقافى والعلمي، واللحاق بكل آفاق المستقبل. لمزيد من مقالات فاروق شوشة