كيف يستقبل الجمهور الفن التشكيلي؟ وكيف تستطيع اللوحات الفنية أو الأعمال المعاصرة أن تستثير الجمهور، وتدعوه إلى زيارة قاعات العرض وسط إيقاع الحياة المحموم الذي لا يأبه بالابداع أو بقيمة الجمال. تبرز هذه الاسئلة خاصة بعد الطفرة التي حدثت على مستوى تلقي الفن، وخاصة بعد ثورة يناير، أي بعد انتشار صيغ فنية جديدة ومحاولة استخدام الفن في أشكاله البسيطة للتواصل بين الناس والتضامن حول قضية واحدة، وهو البعد الذي غاب طويلا عن الحركة التشكيلية وحصر الفنان في برج عاجي اصطناعي في أغلب الأحيان. إذ يرجع الفضل في هذه العلاقة الجديدة إلى تفجر فن الجرافيتي بشكل خاص، الذي ساهم انتشاره مع أولى تباشير الثورة المصرية في تفتح عيون المارة والمشاة على الصورة والتشكيل، ففرضت الرسوم الجدارية نفسها على المتلقي في عرض الطريق وجذبته إلى المشاركة بالحرف والخط أو الرسم التلقائي البسيط، ولم يعد يستطيع أن يغض الطرف عما حوله و أن يمر مرور الكرام مرددا عبارته الشهيرة «هذا فن سوريالي لا أفهمه». وماذا عن الفنان المبدع نفسه، هل استطاع أن يقتنص هذه اللحظة من إذابة الجليد بينه وبين المتلقي؟ هل ينشغل بجمهور المتفرجين فى أثناء العملية الإبداعية نفسها ويضعه نصب عينيه ؟ تأتي الإجابة عن هذه الأسئلة من داخل قاعات العرض، ومن خلال فنانين مختلفي التوجه. صباح نعيم التي تعرض أعمالها في قاعة سفر خان بالزمالك، وجورج فكري إبراهيم الذي يقدم أعماله في قاعة الزمالك للفن، الأولى أستاذ بكلية التربية الفنية، اكتسبت سمعة عالمية مرموقة كفنانة مصرية معاصرة واقتنت قاعات مزادات سوثبي وكرستيز في لندن بعضا من أعمالها، وقدمتها واقتنت أعمالها كبرى قاعات الفن في إيطاليا. أما جورج فكري، فهو أيضا استاذ بتربية فنية، شارك في العديد من المعارض الدولية، وتتميز أعماله دائما بالبحث في الذاكرة الشعبية والموروث الثقافي المصري في إطار حداثي. تظهر محاولة «استمالة» الجمهور وجذبه إلى العالم الفني، في معرض جورج فكري، منذ اختيار العنوان نفسه «ضحك ولعب وجد وحب» ليثير نوستالجيا الزمن الجميل، أفلام الأبيض والأسود، وأغنية عبد الحليم حافظ الشهيرة من كلمات مرسي جميل عزيز في فيلم «يوم من عمري». أما الملصق الدعائي، الذي يصور إحدى لوحات المعرض، فيستعيد مشهدا من الفيلم حيث يمرح الأبطال على الدراجات في شوارع المدينة، ويستحضر فيها الفنان الحس الرومانسي ولكن بشخصيات من صنعه، تظهر فيها خطوط الوجه الافريقية، والسمات المصرية التي قد لا تشير إلى جمال القسمات بشكل خاص –كما يقول الفنان- لكنها تعكس الجمال الداخلي. نجح فكري في خلق حالة من البهجة عبر الألوان الصاخبة والمجموعات الفوسفورية التي تتغنى ب«ضحك ولعب وجد وحب» من خلال 35 عملا من الطرائق المتنوعة، مستخدما ألوان الباستيل والعجائن الملونة والكولاج بواسطة الورق الملون، على خشب وكرتون وتوال. أجواء تجذب المشاهد لكنه قد يتساءل هل مازالت هناك هذه اللقاءات الرومانسية في الحديقة العامة، والفلوكة في النيل، وعلى الدراجات ؟ وهل مازالت الأطفال تلهون بنفس ألعاب الماضي التي يصورها الفنان في لوحاته (مثل لعبة صلَح، ونط الحبل، واللعب بكرات البليّ، وصناعة المراكب الورقية)، أم أنه الفنان يحاول أن يستقوى بصور الماضي لمواجهة الواقع؟ يؤكد جورج فكري أن كل هذه اللحظات لا تزال موجودة في حياة المصريين لكننا لا نمعن النظر فيها، ألعاب الأطفال البسيطة التي لا تعرف سوى الخيال وروح اللعب، لقاءات «الحبّيبة»، جلسات النساء لقراءة الطالع في فنجان القهوة. تقع الأحداث الجسام، ويتجاور الجد مع الضحك اللعب والحب، ولكن تستمر الحياة، «ده جنب ده، جنب ده، جنب ده» كما قال أمين حداد. أما عن التمسك بالتيمة الشعبية واستثمار الفنان لمعايير «مضمونة» سلفا، فيؤكد جورج فكري أن إقامة معرض كامل لأعماله الفنية يختلف جملة وتفصيلا عن المشاركة بقطع فنية في بينالي أو في معرض دولي، حيث يحاول أن يعبر ببساطة عن الحياة المصرية، متمسكا بالفنتازيا ومحبذا ألا يبتعد عن المتلقي بتحميله للعمل الفني تقنيات معقدة أو خطابا مباشرا. بينما يختلف الوضع –من وجهة نظره- حينما يشارك في بينالي القاهرة على سبيل المثال، حيث يتحول الأمر إلى «مختبر» لطرح القيم الفنية المعاصرة من خلال الاحتكاك والتفاعل مع أقرانه على الساحة الفنية العالمية. أما معرض صباح نعيم الذي يتخذ عنوانا له «أصوات»، فيشير إلى تبني الفنانة مسارا عكسيا، فبعد أن بدأت مشوارها الفني مع الدمج بين التصوير الفوتوغرافي والرسم والتلوين، وكذلك الفيديو آرت، تسلك اليوم في معرضها مسلكا جديدا، حيث تتلاشى الفوتوغرافيا لتفسح المكان لعالم زخرفي قوامه الرسم بالرصاص والألوان. في معارضها الأولى، كانت نعيم منشغلة بحركة وإيقاع الناس في المدينة الكبيرة، تصور حركة الناس في الفضاء المزدحم، هذه الكتل البشرية المتراصة التي تسمى بالجموع، تعالج الصورة الضوئية عن طريق تغييرها للخلفيات، تستبدلها بنقوش زخرفية من صناعتها، كما لو كانت تحاول أن تفرد المشهد لفردية الإنسان، أن تضفي بعدا إنسانيا على الكتل العامة للجماهير. أن تجعل لهذا السائر في الشارع، يعلو وجهه هموم اليوم وعنائه، حكاية وتاريخا، أو أن تبرز بعض الوجوه لركاب المترو وترمي بالظلال على الأخرى، فتستحيل الوجوه البائسة في الدوامة اليومية أبطالا، بينما تتجاوب الزخارف في الخلفية مع الحالة الانسانية المتصدرة للشخصية. أما اليوم، فتنتقل نعيم من الضجيج الحركي إلى الصخب الصوتي، تختفي حيوات البشر ليحل محلها حضور رمزي تجريدي، أوراق شجر وزهور تشي بمنمنمات عربية متكررة. وإذ يبدو هذا التوجه في أعمالها الجديدة «انصرافا» عن المتلقي، وبحثا داخل الذات، تفسره نعيم قائلة :«الفنان دائما ما يحتاج الي الجمهور والمتلقي، ولكن فى أثناء العمل يكون القرار خاصا بما أفعله وما أنتجه للتعبير عن مشاعري وفكرتي وكيف أصل بهما الي ما يسمي بالفن التشكيلي». فيبدو أن كل مرحلة أو اتجاه جديد تبنته الفنانة كان انعكاسا لعالمها الخاص، وعن تعبيرها الصادق عن تجربتها، مثل مجموعة أعمالها عن أسرتها وعلاقتها بوالدتها، ثم عن علاقتها بالناس في الشارع وهمومهم التي أثمرت عن أعمال الفوتوغرافيا مع الرسم، وحين مرت بظروف مرضية قاسية أبعدتها عن الناس، فصارت الأعمال في معرضها «أصوات» أكثر ولوجا داخل الذات. «اختلفت أيضا الأحداث الجارية بعد الثورة، فأصبحت غامضة بالنسبة لي، وصرت أكثر التصاقا بالذات، فجاءت هذه الأعمال تعبر عن تلك الحالة». يقارن الفنان محمد عبلة توجهها في معرضها الأخير نحو الحركة داخل البناء الثابت بأفكار المتصوفة في تكرار الأدعية والأناشيد، «إنها انغام صوفية تتكرر، تعلو وتخفت وتتحول وتتحور. تستخدم صباح كل ذكائها في الرسم والتلوين لتجعلنا نشترك معها في ترديد تلك الأناشيد وتأخذنا إلى داخل هذا العالم تنفصل عن الواقع بكل صخبه إلى واقع آخر نحاول نفهم أسراره أنه عالم صباح نعيم».