انشغل علماء النفس السياسى بدراسة ظاهرة تفكك وتماسك الجماعات القومية والدينية والسياسية, وغيرها, وخلصوا إلى عدد من القوانين العلمية التى يمكن من خلالها التنبؤ بمسار حياة الجماعة بل والتدخل لإنقاذ تلك الحياة أو تدميرها, و لعله ما يستوقف النظر إقدام بعض الجماعات - بزعم التشدد فى الحفاظ على قوتها و تماسكها - على أنماط من الفكر والسلوك تنتهى بالجماعة إلى التفكك و الاندثار, ولعل أبرز تلك الأنماط هو تبنى الجماعة لفكرة أن الجماعة المتماسكة هى التى يلتزم أفرادها بنمط فكرى واحد، و أنه ينبغى إغلاق الأبواب أمام تسلل الغرباء أو أفكارهم الغريبة . لقد كان الاتحاد السوفيتى على سبيل المثال - يبدو شامخا فى عالم القطبين الكبيرين, فى مواجهة القطب الآخر المتمثل فى الولاياتالمتحدةالأمريكية, وكان ثمة تشابه بين القطبين لعل الكثيرين لم يتوقفوا أمامه حيث كان الانتباه مشدودا إلى أوجه التناقض بينهما. لقد قامت الولاياتالمتحدةالأمريكية على امتزاج مهاجرين يحملون العديد من الثقافات المتباينة, وفى المقابل فقد قام اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية على بنية بشرية متعددة القوميات. وكان طبيعيا أن تبذل السلطة على الجانبين جهدا كبيرا لصهر أبنائها تحت مظلتها. واختارت قيادة الاتحاد السوفيتى إطارا عقائديا صارما للصهر و التوحيد, وإدانة أى اجتهاد يختلف مع تأويلها للعقيدة الماركسية مهما حاول أصحابه إعلان التزامهم بمبادئ تلك العقيدة ووضعت قيودا صارمة أمام التسلل من الاتحاد السوفيتى أو إليه، و انهالت الاتهامات بالمراجعة والردة لتطال وأصحاب «الشيوعية الأوروبية»، و تيتو زعيم يوجوسلافيا, وماو زعيم الصين, فضلا عن كاوتسكى وتروتسكى وغيرهم من زعماء الاتحاد السوفيتى نفسه. واختارت قيادة الولاياتالمتحدة المبالغة فى تأكيد حرية المواطن إلى حد حريته فى حمل السلاح, وحقه فى اعتناق ما شاء من عقائد, والتحول من عقيدة لأخرى, والتهجم على العقائد جميعا، فضلا عن منحها الحق المطلق فى الحصول على الجنسية لكل مولود على أرضها. وبدا أن الانتماء الأمريكى مهدد بالاندثار. وانعكس ذلك بطبيعة الحال على حيوية المجتمع على الجانبين. لقد أدى تغليظ العقاب للمرتدين و المراجعين من المارقين على التأويل الرسمى للعقيدة الماركسية, إلى غياب ذلك الجدل الضرورى بين الموافقين والمعارضين, ومال الكثيرون للأخذ بما يشبه التقية, وامتلأت صفوف الحزب الشيوعى بالمنافقين والخائفين والطامعين ممن يرفعون أصواتهم صارخين بولائهم للحزب و التزامهم الحديدى التأويل الرسمى للعقيدة, مبقين آراءهم «الرجعية المنحرفة» دفينة فى صدورهم, لا يهمسون بها إلا لخلصائهم, ومن ثم ظلت تلك الأفكار بمنأى عن المناقشة والتصحيح, بل وأدى ذلك الخفاء إلى استحالة معرفة القيادة للحجم «الحقيقي» لأتباعها المخلصين. وانهار الاتحاد السوفيتى فى النهاية من الداخل, وعاد الحزب الشيوعى إلى حجمه الحقيقى بعد أن انفضت جماهيره الغفيرة من حوله ليتجه كل فريق صوب انتمائه المختار. ومما لا شك فيه أن إغلاق الباب أمام الحوار المفتوح حول أسس العقيدة الشيوعية بالنسبة لأبناء الاتحاد السوفيتى كان عاملا مهما وإن لم يكن بطبيعة الحال - العامل الوحيد فى انهياره. وفى المقابل, ما زالت الولاياتالمتحدة قائمة بتناقضاتها الداخلية الحادة, مستمرة فى الحياة رغم سياستها الخارجية العدوانية التى تلقى معارضة داخلية وخارجية, ورغم كل «فوضي» الآراء والأفكار. وقد يكون ضمن عوامل ذلك البقاء حقيقة أكدتها دراسات علم النفس السياسى التى أشرنا إليها مؤداها أن تخلخل الانتماء لا يتوقف فحسب على حجم الظلم الواقع على أعضاء الجماعة, بل يرتبط أيضا بمدى اليأس من إمكان التغيير. وأن حرية التعبير عن الآراء مهما يكن جموحها هى الضمان الحقيقى للاحتفاظ بذلك الأمل فى إمكان التغيير, فى حين أن تجريم التعبير عن تلك الأفكار يدفع بها بعيدا عن التصويب فضلا عن أنه يرسخ لدى أصحابها قناعة بصوابها, ولا يجعل أمامهم إلا أن يولوا ظهورهم للانتماء للجماعة, متمنين زوالها إذا ما عجزوا عن تفجيرها بالثورة, وإن الانتماء للجماعة لا يقاس بعدد من يعلنون انتماءهم لها إلا فى إطار توافر حرية الاختيار والمفاضلة, وأن تشديد العقوبة على الأفكار المخالفة لا يكفل أمنا ولا استقرارا. ترى هل من سبيل لاستيعاب كلمة العلم وحكمة التاريخ؟ هل من سبيل للتسليم بأن إطلاق حرية التعبير حتى عن تبنى أفكار «جامحة» يمثل ضمانا أساسيا لنقاء صفوف المنتمين للأفكار «الصحيحة»؟ وأن المجبرين على النفاق أشد خطرا على تماسك الجماعة من المعارضين علنا لتوجهاتها؟ ألم يحن الوقت لإدراك حقيقة أن الخوف من العقاب يعد مصدرا رئيسا لشيوع رذيلة النفاق التى تنهى عنها الشرائع السماوية جميعا, بل وتنفر منها نفوس البشر كافة؟ و أن تغليظ عقوبة الخروج على الفكر السائد إنما يعنى إسباغ عضوية الجماعة على المنافقين, فتفيض سجلات «المؤيدين» بكثرة لكنها كغثاء السيل؟. لمزيد من مقالات د. قدري حفني