ما أن رحل عن عالمنا المؤرخ الوطني الدكتور عبادة كحيلة، أبرز المتخصصين لدينا في تاريخ العصر الإسلامي الوسيط والأندلس والغجر إلا وبحثت في أوراقي. فعثرت على حوار غير منشور كنت قد أجريته معه الصيف الماضي . وحيث كان وكنا اصدقاءه ومحبيه والعارفين بفضله - وقدره نتوقع فوزه بجائزة الدولة التقديرية للعلوم الاجتماعية ، بعد ان كان أبرز المرشحين لها . لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه . وما أتذكره جيدا انه عندما جرى الإعلان عن الفائزين بالجوائز كان الدكتور عبادة ، أقلنا شعورا بالخذلان، وذلك على الرغم من إسهاماته الفكرية والعلمية غير المنكورة في تخصصه . ولقد ترك عالمنا الراحل 15 كتابا مؤلفا و3 كتب مترجمة . أولها وربما أشهرها كتابه «صقر قريش عبد الرحمن الداخل » و ترجمة « الموت الأسود » عن مرض الطاعون في العصور الوسطي. والعديد من مؤلفات الرجل تجاوز تخصصه الى الكتابة المتميزة عن العلامة والجغرافي الراحل «جمال حمدان» . ثم الى التأريخ للحركة المصرية من أجل التغيير «كفاية » . وماحدث أن الرجل غير المكترث بضياع الجائزة انصرف الى استكمال أعماله العلمية ،ومن أبرزها الاصدار العربي ل «أطلس التاريخ الإسلامي» للمستشرق « بيتر سلاجت» بتكليف من مؤسسة «لونجمان » الشهيرة والى رعاية تلامذته . في بداية هذا الحوار الذي بقي غير منشور فيما رحل صاحبه سألت الدكتور «كحيلة» المولود عام 1942 عن التأثيرات الثقافية في الطفولة والشباب التي شكلت لاحقا وجدانه كمثقف ، فأجاب : عندما كنا في مدينة المنصورة حيث ولدت ونشأت كان والدي يأخذني وهو في طريقه الى عمله بالشهر العقاري الى المكتبة الفاروقية ( نسبة الى الملك فاروق) . وقرأت في تلك المكتبة سلسلة « أولادنا » الصادرة عن دار المعارف ،وهي من إعداد أديب الأطفال الراحل « كامل الكيلاني » . وهناك أيضا طالعت بعض أعمال توفيق الحكيم ومنها«مسرح المجتمع». وكذا « المساكين » للأديب الروسي «فيودور دوستويفسكي» . كما كان أبي يشجعنى على قراءة أشعار أمير الشعراء «أحمد شوقي» وحفظ أجزاء من مسرحية «مصرع كليوباترا» . وحتى أيامنا هذه أتذكر مطلعها. وفي عام 1954 كنت في زيارة الى مدينة «طنطا» حيث يقيم خالي . ووجدت عنده سلسلة كتاب «الهلال» خضراء اللون . فانجذبت اليها . وطالعت منها بعض أعمال «العقاد» وبخاصة عبقرياته و «طه حسين » و«الحكيم» . . وفي العام نفسه انتقلنا الى العاصمة «القاهرة» . وسكنا في حي » الدقي «وكانت عند الميدان أرض فضاء أشبه بخرابة والى جوار السور المحيط بها باعة للكتب القديمة . فأصبحت اشتري الكتاب بقرش صاغ (عشرة مليمات ) . وبعد يوم او يومين اعود الى البائع نفسه وأضع في يده تعريفة ( خمسة مليمات ) فيعطيني كتابا آخر وهكذا. وعلى أعتاب هذه الخرابة تعرفت على روايات «أرسين لوبين»و «جورجي زيدان» بخاصة عن تاريخ الأندلس . وكذا «ألف ليلة وليلة»وسلسلة «كتابي» للراحل المثقف العظيم «حلمي مراد» والعديد من روائع الأدب العالمي . واضح أن تكوينك الأول في الثقافة مزج بين الأدب والتاريخ ؟ هذا صحيح . لقد كان التاريخ والأدب بالنسبة لي في منزلة واحدة . وحتى الآن اشعر بالندم من حين لآخر أنني اخترت التاريخ ولم أذهب لأدرس في أقسام اللغة الإنجليزية أو العربية أو الفلسفة . لكن ما حدث انه كان لي صديق إسمه « فائق الشرقاوي» . وكان قارئا جيدا ومستمعا جيدا للموسيقي الكلاسيكية وفنانا متذوقا للفن التشكيلي وممارسا له . ولما كان قد التحق بقسم التاريخ في كلية الآداب جامعة القاهرة فقد شجعنى على ذلك. وكنا نتنازع المرتبة الأولى على دفعتنا . ومع هذه المنافسة إلا انه ظل صديقا حميما لسنوات طويلة . ومن هم أساتذتك في قسم التاريخ الذين تركوا بصماتهم على تكوينك العلمي ؟ أحدهم هو الدكتور « عبد اللطيف أحمد على » المتخصص في التاريخ اليوناني والروماني وكان رحمه الله يتميز بأسلوب أدبي .أما الآخر فهو الدكتور « محمد أنيس » فهو الذي كان يحفزنا على التفكير والأخذ بالمنهج العلمي . أما الثالث فكان الراحل الدكتور «جمال حمدان » . وكان وقتها مدرسا في قسم الجغرافيا بالكلية .لكنه قام بالتدريس لدفعتي في التاريخ . وكان الرجل العلامة ملء السمع والبصر بالنسبة لي ولكل زملائي . وقد قمت فيما بعد بالكتابة عنه كثيرا . لكنني التحقت بجامعة اخرى غير » القاهرة » قبل أن أنهي دراستي الجامعية . وأعنى بهذه الجامعة الخاصة الراحل » عباس محمود العقاد » . فقد انتظمت في ندوته الاسبوعية كل جمعة بمنزله في «مصر الجديدة» اعتبارا من صيف عام 1962 وحتى وفاته عام 1964.وكنت أشاكسه بأسئلتي . ولكن عندما أتأمل الآن شبابي فيما مضى أرى أن « على أدهم » و « لويس عوض » و «جمال حمدان » كانوا الى جانب « العقاد » أخطر أربعة شكلوا وجداني الثقافي ، و مع احترامي لكل من تعلمت على ايديهم في الجامعة وخارجها. حدثنا عن رسالتك للماجستير ؟ واقع الحال أن الأدب ملك على أمرى الى حد أنني أردت تعقب خطا »العقاد«، فأهملت متابعة الدراسة الأكاديمية لسنوات بعد تخرجي عام 1963 . ونظمت الشعر . وكنت قد نشرت بمجلة «الأدب » لأمين الخولي وأنا في السابعة عشرة من عمرى ( في عدد إبريل 1960). كما عملت لنحو عشر سنوات ( 63 : 1972) محررا بالمجلات الثقافية للهيئة العامة للكتاب . ولأن حلم التفرغ للكتابة الأدبية راودني لم انتبه الى نصيحة من دعاني لدراسة الماجستير إلا بحلول عام 1974 . وهكذا حصلت على الماجستير عام 1978 عن رسالة بعنوان :« المولدون في التاريخ الأندلسي » . المولدون هم المسلمون من أصول نصرانية . وحقيقة أعتبر نفسي كاتبا بالدرجة الأولى الى جانبي كوني مؤرخا . ويتضح ذلك من أسلوبي في كتابة التاريخ ، حتى أن أحد الذين كتبوا تقريرا لترقيتي الى درجة الأستاذية كان يأخذ على دراساتي المقدمة أسلوبها الأدبي . ولاتشك انني جمعت بين التاريخ والأدب أيضا في دراستي المنشورة بمجلة « الفكر المعاصر » عن فريد أبو حديد والرواية التاريخية والمنشورة عام 1968. وماذا عن رسالة الدكتوراه ؟ كانت بعنوان « نصاري الأندلس حتى نهاية عصر الخلافة» وحصلت عليها في عام 1983. وتعد حاليا مرجعا أساسيا في الجامعات الأسبانية . تبدو من قائمة مؤلفاتك شديد الاهتمام بالموضوعات النادرة غير المطروقة ؟ هذا صحيح الى حد كبير . أنا أهوى الموضوعات التي لايتطرق اليها أحد . في كتاب « العرب والبحر» على سبيل المثال هناك ثلاث قضايا . الأولى تتحدث عن صلات العرب بالمحيط الأطلسي عبر العصور ومايقال عن وصولهم الى أمريكا قبل «كولومبوس» . والقضية الثانية هي صلات العرب بالمحيط الهندي واكتشافاتهم هناك بما في ذلك رحلات الملاح الكبير » أحمد بن ماجة ». أما الثالثة فعن البحر في الشعر الجاهلي وتحدثت فيها عن صورة البحر عند العرب قبل الإسلام . وماذا ترى من فائدة لدراسة تاريخ الأندلس في عصرنا هذا ؟ دراسة التاريخ مهمة بوجه عام . وتاريخ الأندلس حافل بالعظات والعبر.لكن يبدو أننا لا نتعظ. وهكذا رحل العالم المؤرخ صاحب هذا الحوار وبقيت كلماته.