لم تكن (ألفُ ليلةٍ وليلة) سوى كتاب عاش، يزدحم بحكاياتٍ تقول الأسطورة إنَّ شهرزاد لجأت إلى قصِّها لتنجو بعنقها وبنات جنسها من مقصلةِ شهريار، وكأنَّ الحكاية بابُ الهروب من الموت إلى الحياة، وقد عاش الكتاب بما يكفى لكى يكون جزءاً من الذاكرة الإنسانية، لتصبح الحكايات إبداعاً قصصياً وروائياً يكتبه رجال ونساء. ومِن النساء مَن كتبت لا لكى تصفِّى حساباً مع القتل، وإنما لتحتفى بالكتب، وتصفِّى حساباً مع الذات، ومنهن الكاتبة أناندا ديفى من جزيرة موريس فى المحيط الهندى فى "الرجال الَّذين يحادثونني"، الذى ترجمه "شربل داغر"، عن الفرنسية، وصدر فى سلسلة إبداعات الكويتية عام 2012. تقول أناندا: "أهذه جردة نصف قرن من الوجود؟ إنها غير كافية، سخيفة، حياة موهومة تعتقد أنها ذات قيمة بسبب 12 كتاباً مرصوفة فوق الرفوف، أشبه بفعلِ خلودٍ مصطنَع ونرجسي". غير أنه ثمة فعل واقعى تماماً فى هذا العمل، لقد تركت أناندا بيتها وزوجاً وولدين، لتعيش وحيدة فى غرفة فندق، تروى واقعة القطيعة هذه مضفَّرة فى الحقيقة مع تاريخها الشخصي: "أنا حذرة فى استعمال كلمة: رواية ذاتية، غير أن كل كتابة ربما لا تعدو كونها غير ذلك، متخفية فى ألف شكل وشكل. حتى حين نسعى إلى الكشف المجنون عن أنفسنا، فإننا نحولها إلى رواية". تتبدى فى هذا العمل قيمة الكتابة فى إسناد الحياة، أو فى الثأر منها، وتبدو "أناندا" وكأنها تثأر بالحكاية من الرجال: "لا أتحدث عن الرجال الَّذين يحادثونني، إنهم هم يتحدثون عني. لا أفعل سوى استعادة المرآة التى مدوها صوبي، والتى أوجدتني". وكانت فى بداية كتابها قد قالت: "كل هؤلاء الرجال الَّذين يحادثونني، الولد، الزوج، الأب، الأصدقاء، الكتَّاب الموتى والأحياء، لائحة طويلة من الكلمات، من الساعات الممحوة والمستعادة، من المباهج المنقضية، ومن عبارات الود الجريحة. أنا ممنوحة لكلام الرجال، لأننى امرأة". تأتى "أناندا" بأصوات الرجال فى كتابها، تتحاور معهم، تحبهم أو تكرههم، تروى سيرتها الذاتية عابرةً فى طرقهم، بدايةً من الأب التى تصفه بأنه كان طيباً وسلبياً، وتكتب كتاباً يتبدى فى النهاية صوت إنسان، يعمل ويعيش فى مجتمع غير مجتمعه، ويتحدث لغة غير لغته، بينما يحمل كتابها صوت المرأة "أناندا": "ماذا يقول لي، هذا الرجل الذى يحادثنى منذ ثلاثين عاماً؟ أنا عاجزة عن إنجاز مهام بسيطة. كل ما يعتبره مثل علامة الذكاء: تدبر الأمور، الحس العملي، غريزة الجسور, لا أمتلكه. ذات يوم قال لي: فيما عدا الكتابة، أى أمر تُحسنين القيام به؟". وتجيب: "لا شيء، لا أُحسن فعلَ أى شيء، فيما عدا الكتابة والكلمات، ملجئي، وحكايتي، والمكان الذى تتشكل فيه، أخيراً، صورة أخرى، صورة أمرأة مُستحقة لأن تكون". فالكلمات والحكاية هما ملجآ الإنسان رجلاً كان أو امرأة، ويلخص شربل داغر الأمر كله فى مقدمة ترجمته فيقول: "إلى جانب هذه الحياة الدراسية، والعائلية، انصرفت أناندا إلى القراءة الأدبية، وكان ل "ألف ليلة وليلة" أثرها الكبير فى نشأتها الأدبية، على ما قالت فى أكثر من حديثٍ صحافى وإذاعي، فقد قرأت وهى فى العاشرة من عمرها، هذا الأثر العربى الفريد، وتبينت فيه أن فى إمكان المرأة أن "تعيش من أجل أن تكتب" مثل شهرزاد، التى أنقذت حياتها بالقصّ: "امتلكتُ حرية فى القول لم تكن لأمي. حين أكتب، أشعر بأن أجيالاً وأجيالاً من النساء تقرأ ما أكتبه، إذ أكتبه، واقفات وراء كتفي".