منذ أن شرفتنى ( الأهرام ) بدعوتى للانضمام إلى كوكبة كتابها العظام , وأنا أفكر فيم سوف أكتب فى المساحة التى يحددها المسئولون بالجريدة , وفى البدء خطر على الذهن أن تكون كتابتى حول الهمّ اليومى للمواطن المصرى , لكنى وجدت أن صفحات الجريدة تكاد تستوعب كل هذه الهموم , مناقشة لها , وكاشفة عن أسبابها , واقتراح الحلول المناسبة لها , فانتقلت بفكرى إلى القضايا الكبرى التى تشغل المجتمع , مثل : ( قضية التعليم الجامعى وما قبل الجامعى ) ومثل ( قضية مدنية الدولة ) أو غيرهما من القضايا التى يهتم لها المفكرون وأصحاب القلم من (أهل الاختصاص ) , لكنى وجدت أن هذه القضايا تحتل مساحات واسعة فى الجريدة , ولها كتابها المميزون المتخصصون . وهنا اتجه الفكر إلى مسار آخر ربما يكون الأنسب لى فى التخصص , والأنسب لاحتياجات الواقع عموما , حيث أقدم رؤيتى للثقافة المصرية , وأعنى بالثقافة فى أبسط مفاهيمها : المسلك الحياتى الكلى لمجتمع ما فيما يتصل بمشاغله المؤقتة والدائمة والطارئة , وبخاصة مشاغله الإبداعية والجمالية , وكان من الضرورى أن أحدد الأسباب التى تدفعنى إلى هذا المسلك فى الكتابة , وهى أسباب تحتضنها جملة تراثية هى : ( أهل الاختصاص ) التى تتبادل وظيفتها مع جمل أخرى هى : ( أهل الصنعة أهل المعرفة أهل العلم ) , وكل هذه الجمل تشير إلى أن الواقع الثقافى يضم مجموعة من العلوم والمعارف والفنون عقلية وجمالية ولغوية وعملية , ولها متخصصون يعرفون مداخلها ومخارجها ومكوناتها الجزئية والكلية , وبالمصطلح الحديث : (الخبراء ) . وتتحقق هذه الخبرة بالدراسة والدربة والمران والقراءة والممارسة العملية , وهو ما يحقق لأصحابها المعرفة الصحيحة بالموضوع , فالطب مثلا موضوعه ( بدن الإنسان ) والخبير بالطب يبحث فى أحوال البدن من الصحة والمرض , ويقترح الدواء المناسب , ولا يكفى فى ذلك العلم بالقواعد والأصول لتحقيق (الخبرة) بل لا بد من متابعة تاريخ الموضوع الذى يبحثه نظريا وتطبيقيا , فعالم الطب لن يكتسب صفة ( الخبير ) إلا إذا وقف على ما أنجزه البحث فى الطب قبله , والنتائج التى توصل إليها الباحثون السابقون , وبالمثل فإن الناقد الأدبى لن يكون مؤهلا لمقاربة النص تفسيرا وتحليلا وتأويلا إلا بعد استيعابه الجهد السابق عليه، والوقوف على دقائقه , وبهذا وحده يستحق أن يكون من ( أهل الاختصاص ) الذين يمارسون عملهم للوصول إلى إبداء الرأى فيما بين أيديهم من الفنون والآداب , ثم يصعدون من إبداء الرأى إلى ( إصدار الحكم بالقيمة ) .ورحم الله من قال : «من قال لا أدرى فقد أفتى » . ويتحتم علينا أن نفرق بين إبداء الرأى وإصدار الحكم , ذلك أن إبداء الرأى حق مشاع للجميع , من أهل الاختصاص ومن غير أهل الاختصاص , فصاحب الرأى يحتكم إلى ذائقته بالدرجة الأولى , فينظر فى لوحة تشكيلية , قد تعجبه أو لا تعجبه , ويقرأ نصا شعريا قد يعجبه أو لا يعجبه , وهذا كله شيء غير ( إصدار الحكم ) لأن إصدار الحكم فى حاجة إلى مبررات علمية وفنية ولغوية لا يمتلكها إلا ( أهل الاختصاص ) , ولذا يمكن أن نوجه السؤال إلى من أصدر الحكم : ماهى الأسباب التى دعتك إلى إصدار الحكم بالجودة وسواها ؟ وهو سؤال لا يوجه لمن أبدى الرأى . وهنا ننبه إلى أن المختص فى فن معين أو علم معين ليس من حقه أن يصدر الحكم على أمور ليست داخلة فى اختصاصه , لأنه سوف يكون مجرد انطباع وقتى فاقد للموضوعية . أقول قولى هذا (فى البدء) لأن الواقع الثقافى العام اختلط فيه (الحابل بالنابل), وأصبح الجميع خبراء فى كل فن وكل علم, والقاعدة التراثية تقول: (إن من يعرف كل شيء, لا يعرف أى شيء) لمزيد من مقالات د.محمد عبدالمطلب