بعد أربعة قرون وتزيد عامين من الظلام والتقوقع والجهل والجهالة ووأد العقل وطمس الوجدان وقتل الخلق وإسالة دم الإبداع المصري.. تحت سنابك خيل التخلف العثمانلية بقيادة السلطان سليم الأول الذي غزا مصر في عام 1517.. والدنيا ظلام والأحلام نيام.. فتحت المرأة المصرية صباح يوم السادس عشر من مارس من عام 1919 نافذة للشمس لكي تشرق من جديد لتبدد سحب الغيام والظلام والتخلف وتقول للدنيا كلها: نحن هنا.. مصر لم تمت.. ولن تموت.. قد تغفو أحيانا ولكنها لا تنام أبدا. وقالت للشمس: اشرقي يا شمس الشموس بنورك ودفئك.. فالمرأة المصرية قد كسرت قيودها ورفعت رأسها وفتحت عيونها ولم تعد قعيدة الدار حبيسة القرار بعد أن خلعت برقع الحريم.. وقالت للمستعمر الإنجليزي وجنوده الذين ينتشرون في كل دار وقرار: كش ملك.. نحن هنا.. لقد استيقظت المرأة المصرية.. لتشارك زعيم الأمة سعد باشا زغلول ورفاقه كفاحهم ضد القدم السكسونية الهمجية! أنتم الآن تتساءلون: ما الذي جري بالضبط صباح السادس عشر من مارس من عام 1919؟ وأنا شخصيا من جانبي.. سوف أترك الكلام والحكي للمرأة المصرية نفسها التي عاصرت طلوع شمس الحرية بأمر مباشر من المرأة المصرية التي خلعت عباءة الحريم وقادت أول مظاهرة نسائية زلزلت أرجاء القاهرة صباح السادس عشر من مارس قبل مائة عام تنقص عامين! من خلال المذكرات التي كتبتها بخط يدها المناضلة العظيمة هدي شعراوي زوجة محمد شعراوي زميل سعد باشا في المنفي.. والتي قادت مشوار كفاح المرأة المصرية نحو النور قبل الزمان بزمان كما جاء بالنص في كتاب المرأة المصرية والتغيير الاجتماعي 1919 1945 للدكتورة لطيفة محمد سالم والذي هو في الحقيقة يعد مرجعا ومنارا وسلاما للمرأة المصرية ورحلة كفاحها العظيمة نحو النور.. ....................... ...................... تقول هنا هدي شعراوي في مذكراتها: لقد بدأت عملية تنظيم أول مظاهرة نسائية مصرية في التاريخ الحديث في بيتي في صباح السادس عشر من مارس عام 1919 للتعبير عن الشعور الدفين والاحتجاج علي تصرفات الإنجليز إزاء ما أصابوا به المصريين من قتل وتنكيل.. واشترك في المظاهرة التاريخية نحو 530 سيدة وفتاة ينتمي معظمهن إلي الطبقة العليا.. وعلي رأسهن زوجات الزعماء الذين رفعوا لواء المطالب الوطنية وتم اعتقالهن، وكان من بين المتظاهرات من جئن من الأقاليم، وقد تم الإعداد لهذه المظاهرة ببيتي، وفي الميعاد المحدد، نظمت المتظاهرات أنفسهن وسرن في صفين منتظمين يحملن الأعلام الصغيرة وطفن الشوارع الرئيسية هاتفات بحياة الحرية والاستقلال وسقوط الحماية، فقوبلن بالإعجاب والحماس والتصفيق من الشعب الذي ردد وراءهن الهتافات في الوقت الذي انطلقت فيه زغاريد النساء من الشرفات. هنا يكمل المؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافع وقائع المشهد التاريخي بقوله في كتابه عن ثورة 1919: وحاصر الجنود الإنجليز بسلاحهم هذا الموكب، ولكن السيدات قابلن ذلك التحدي بكل شجاعة ووقفن أمام البنادق الإنجليزية مما اضطر المحاصرون لتركهن، فقدمن احتجاجهن إلي معتدمي الدول عما قامت به إنجلترا ضد المصريين من أعمال وحشية لا لذنب سوي مطالبتهم بحقوقهم، كما بين ما أقدم عليه الجنود تجاههن.وكانت هدي شعراوي قد وجهت خطابا إلي زوجة برونيات المستشار الإنجليزي عقب أول مظاهرة أطلق فيها الرصاص علي المصريين تعرض فيه تلك التصرفات مطالبة بالحرية لمصر. وفي 20مارس 1919 تكررت المظاهرة، فسارت المتظاهرات رافعات الأعلام المكتوب عليها بالعربية والفرنسية عبارات الاحتجاج علي سفك الدماء، مطالبات بالاستقلال حتي وصلن إلي بيت الأمة فضرب البوليس والجنود الإنجليز الحصار حولهن، ولم يفك حصاره عنهن إلا بعد توسط القنصل الأمريكي، وأرسلن احتجاجهن إلي قناصل الدول. المشهد الأسطوري يكتمل برواية السيدة فاطمة اليوسف مؤسسة صحيفة روز اليوسف.. والممثلة القديرة التي كانت تحمل اسم روز اليوسف والتي حملت الجريدة اسمها حتي الساعة.. تقول هنا فاطمة اليوسف في مذكراتها: لقد اشتركت الفنانات المصريات في المظاهرة النسائية أسوة بباقي الطوائف، فتري روز اليوسف وماري إبراهيم تحملان الأعلام وتتقدمان بها صفوف المتظاهرات. وتكمل فصول المشهد العظيم السيدة درية شفيق زعيمة المرأة وصاحبة مجلة «بنت النيل» عندما تقول في كتابها «المرأة المصرية»: وبذلك نزلت المرأة إلي الشارع تؤازر الرجل وتشاركه في الثورة التي امتدت إلي كل مكان، ونالت المرأة فيها شرف الاستشهاد، وشيع الرجال والنساء جنازات الشهداء والشهيدات، وفي الريف عاونت المرأة الرجل في تقطيع أسلاك التليفون وخطوط السكك الحديدية، وفي الهجمات التي نظمت علي حجز المعتقلين في السجون. وواصلت المرأة مسيرتها في الثورة، ففي 12 ديسمبر 1919 تم اجتماع نسائي بزعامة هدي شعراوي في الكنيسة المرقسية بالقاهرة، واختير المكان عن فهم وذكاء من المرأة لتبرهن علي الوحدة الوطنية، وأعلن عن سخطهن علي وزارة يوسف وهبة، ولجنة ملنر، وأصدرن بيانا ضمنه رأيهن في الموقف السياسي، وختمنه بتأييد مقاطعة لجنة ملنر والتمسك بالاستقلال التام. ..................... ..................... وقد تسألون: هل قدمت المرأة المصرية في مظاهراتها الأولي شهيدات سقطن فوق تراب الحرية؟ والجواب: نعم لقد قدمت المرأة المصرية أول شهيدتين اخترق رصاص جند الإنجليز صدرهما خلال هذه المظاهرة التاريخية، وقد تم تشييع جنازتهما مع شهداء مصر من الشباب والرجال في موكب مهيب اخترق شوارع القاهرة أيامها. وأكملت المرأة المصرية مسيرتها إلي الحرية عندما قامت في 20 يناير عام 1920 بمظاهرة نسائية كبري كما تقول مجلة «الجنس اللطيف» ومجلة «المرأة الجديدة» النسائيتان والتي خرجت من باب الحديد إلي عابدين هاتفة ضد الاستعمار متصدية للجنود الإنجليز، حتي طالبات المدارس كن يخطبن في الشوارع، وركب النساء عربات الترام وهن يصحن «يسقط ملنر»، وأمر الضباط الجنود بإنزالهن فأبين، وانتشرت السيدات في الشوارع يهتفن وكانت سيارات الجنود الإنجليز تسير وراءهن إلي أن تفرقن. وتسجل هنا صحيفة التايمز اللندنية يومها معلقة علي المتظاهرات بقولها «بهرن الرجال إذ أرينهم أن في مقدرة المرأة أن تعني بغير أولادها وملابسهم! ..................... ..................... ولنترك للصحافة النسائية التي كانت مزدهرة أيامها شوف الدنيا وياليت لدينا الآن صحافة نسائية تقود المظاهرات، كما كانت جدتها قبل نحو مائة عام. تقول هنا صحيفة «السفور» وصحيفة «المرأة الجديدة» وصحيفة «الجنس اللطيف»، وصحيفة «فتاة الشرق»: وقابلت مصر هذه الحركة بالإكبار، ولم يعترض الرافضون، وأصبح أشد أنصار القديم جمودا يسيرون في المظاهرات جنبا إلي جنب مع زوجاتهم أو بناتهم، ودوت خطب النساء الحماسية في المساجد، فنري إحدي الخطيبات يرتفع صوتها في مسجد السيدة زينب تشجع وتؤيد وتوقد نار الثورة. وبرغم المجهودات المكثفة للإنجليز للحد من النشاط النسائي، فإن النتيجة كانت مزيدا من الثورة، وأسهمت المرأة في مسألة إضراب الموظفين إذ باركته ودفعته، فذهبت السيدات ووقفن علي أبواب الدواوين لمنع الموظفين المتخاذلين من الدخول إلي مكاتبهم، وبعضهن انتزعن أساورهن وحليهن وقدمنها لهم قائلات: إذا كان أحدكم في احتياج لراتبه، فليأخذ هذه الحلي ولا تسودوا وجوهنا بالرجوع إلي أعمالكم بعد صدور الإنذار البريطاني! .................... .................... حقا لقد منحت ثورة 1919 الثقة للمرأة بعد أن شاركت بنصيب له ثقله فيها، وأصبح دورها موضع الحديث في كل مكان، ونظمت فيه بيوت الشعر، وتغني بها الناس، ومن ثم تخلصت فكرة تحرير المرأة من قيودها القديمة ودخلت مرحلة الانطلاق نحو النور.. تقول هنا السيدة هدي شعراوي في مذكراتها.. وكما كتبت صحيفة الجنس اللطيف في عدد 4 يناير عام 1920: لقد صاحب تشكيل الوفد المصري فكرة إشراك العنصر النسائي في هذه المنظمة الوطنية الجديدة، وذلك لإتمام نجاح تخطيطها، وعليه شكلت لجنة الوفد المركزية للسيدات، بناء علي اجتماع كبير ضم الألف من النساء، وقد عقد بالكنيسة المرقسية في 8 يناير 1920، وتكلمت فيه استر فهمي ويصا، ناظرة مدرسة بنها للمعلمات عن الفترة التي تمر بها مصر، وعرج علي أحكام الشريعة الإسلامية وعطاءاتها للمرأة. يا سلام سلم.. والتعبير لي أنا تحية للمرأة المصرية وكفاحها الرائع قبل نحو قرن من الزمان! .................... .................... تعالوا نقرأ هنا ما جاء في عدد 4 يناير عام 1920 من مجلة الجنس اللطيف: نص قانون لجنة الوفد المركزية للسيدات علي السعي لاستمرار المطالبة بالاستقلال التام لمصر، ولم يكد يعلن عن قيامها حتي انهالت عليها التوكيلات من سيدات القاهرة والأقاليم، ووضع نشاط عضواتها في توسيع دائرتها. وبدأت اللجنة عملها ببلاغ مطول وجهته لأعضاء لجنة ملنر برفض التفاوض، وشرحت حالة مصر وظروفها وضرورة إلغاء الحماية البريطانية ونيل الاستقلال، وواصلت اجتماعاتها، ودرست الأحداث التي تمر بها مصر، واحتجت علي تصرفات الإنجليز في طنطا، والأحكام العرفية، ومشروع ري السودان، ونقل هذا الاحتجاج إلي رئيس الوزراء والصحافة. وبذلك خلق أول تجمع نسائي سياسي في مصر الحديث، وكان دليلا قويا علي ما طرأ علي مركز المرأة من تغيير، فبعد أن كانت علي هامش الأمور السياسية، أصبحت تعيش في بوتقة الحياة السياسية وأصبحت مساوية للرجل تماما.. ...................... ...................... وتتابعت الأحداث السياسية كما تقول درية شفيق في كتابها «المرأة الجديدة» : وتلاحقت الاحتجاجات إلي المسئولين، فترسل إلي عدلي يكن رئيس الوزراء في 17 مارس 1921 بشأن إغفال استقلال السودان. هذا وشاركت في محاولة كسب الرأي العام العالمي، فبعثت إلي معتمدمي الدول في 29 مايو 1921 تطمئنهم علي حياة رعاياها علي إثر حوادث الإسكندرية، وعندما قبض علي زعيم الوفد ونفي، أعلنت احتجاجها وقدمته إلي اللنبي لإبلاغه لحكومته، وصدر قرار العضوات بتحديد موقف لجنتهن، والتكاتف للوقوف أمام الصعوبات القائمة، ورفض مشروع كيرزون، وإلغاء الحماية، وعودة سعد زغلول، كما تقول هدي شعراوي في مذكراتها. ....................... ....................... تعالوا نقرأ ما كتبته صحيفة «المرأة الجديدة» ومجلة ««السفور» وجريدة «المقطم» في 22 ديسمبر عام 1929: في أول خطبة له بعد عودته من منفاه في جزيرة مالطة قال سعد زغلول باشا: سادتي.. وبودي أن أقول سيداتي آنساتي سادتي.. وهكذا دخلت عبارة: سيداتي.. آنساتي.. سادتي الحياة السياسية المصرية. لأول مرة.. ومازلنا مع كفاح المرأة المصرية جنبا إلي جنب لأول مرة مع الرجل.{ لمزيد من مقالات عزت السعدنى