كان الأخذ بالخاطر واجباً للمشاركة فى عزاء السيدة التى توفى عنها زوجها، فنظراً لأن صلة المعرفة بيننا لها أواصر وامتداد أصبح مجرد إرسال برقية مشاطرة نوعاً من الجليطة خاصة أنها كانت قد قامت لى بمثل هذا الواجب فى وفاة المرحوم تبعنا منذ سنوات، وكان لا مناص من الدخول فى الطاقم الأسود الشتوى بعد نفض التراب المقيم بتلافيف نسيجه، متخذة مسحة الأسى المناسبة للموقف متجهة إلى العنوان، فإذا بى الباهتة الوحيدة فى حفل العزاء المطرز بالماس واللآلئ وسلاسل التبر البراق داخل ديكور أسود أنيق تزججه الصرما المذهبة وخرج النجف المشع وأبليكات الدانتيل الجوبير وتحيطه أطرٌ من فراء الثعالب البلاتينية والدببة القطبية والنمور الاستوائية.. عالم عزاء الفخفخة والنهنهة الخافتة والبارفانات الزاعقة والغمزات المارقة فى صالون الحكاوى والأقاويل والشائعات، مع لمسة حزن تتمشى على الوجوه الناعمة لحظات عندما تتخيل الواحدة مصيرها فى موقع ظل الحائط لا ظل الزوج.. جرعت فنجان قهوتى السادة ورفضت أكثر من مرة صينية السجائر وزجاجات المياه المعدنية الصغيرة، ومددت يدى لصينية المصاحف الصغيرة لأفتح على الصفحة الأولى من بعد الغلاف لأتعرف كعادتى التى غدت تصاحبنى على لقب المرحوم كاملا، لأقرأ له الفاتحة فى سرى، وحاولت بين أزيز الدردشة ونقد البرامج والدعاء على إخوان الإرهاب الإنصات لآيات الذكر الحكيم التى يتلوها الشيخ المعمم الذى تستغرقه أناقة المعزيات فيمكث فترات طويلة يدور بعينيه مهتزاً بلا قراءة.. وفجأة تندفع من الباب هيفاء رشيقة قادمة مجللة بالسواد متجهة إلى موضع الأرملة صاحبة المكان، ويترامى إلى أذنى من على بعد صوت مناقشة حامية تدوى فيها صرخات وصفعات متعارضة..! لتتزاحم الحاضرات حولهما ليعلو صراخ الأرملة الهيستيرى مرددة بلا انقطاع جملة واحدة: - اطردوها من بيتى.. الكدابة.. أترك عملية التدخل لغيرى مدركة أن فى المسألة الشائكة ظهور لزوجة أخرى، متوقعة أن نرى فى جريدة الصباح عمودى عزاء ومأتمين منفصلين لمغفور واحد. - المرحوم يا مجرمة كان راجل فى حاله.. من الشغل للبيت.. محال يخرج من أوضته المقفول عليه بابها ولو بالطبل البلدى.. يدخل يا حبة عينى من العصر لتانى يوم الصبح.. حياته سجين أربعة جدران فوق جبل دوسيهات من أوراق المرافعات والقضايا.. أنا ذات نفسى، والأولاد كمان، محرم علينا مجرد طرق الباب أو المشى أمامه حتى لا نشوش عليه أفكاره فبين يديه مصير ناس ورقاب ناس.. اليوم الوحيد اللى بيخرج فيه يكون للمحكمة الثلاثاء الصبح، ولصلاة الجمعة، وفى العصر يومها رجلى على رجله.. فهمونى يا ستات إزاى يكون للرجل ده زوجة تانية.. إمتى.. وربنا عرفوه بالعقل.. أطرودها من بيتى الكدابة بنت ال... المدعية بحق الزوجة الثانية تبقى أمامنا مصرَّة على قولها وموقفها، وبدلا من لهجة الهجوم والانفعال إلى حديث الهدوء والتأمين المتعقل على كلام الأرملة بأن المرحوم الغالى كان حقيقة من الشغل للبيت ملتزماً لا يخرج من باب أوضته المقفول عليه من الداخل طول الوقت.. المدام صادقة ما بتكدبشى وأنا معاها على الخط من طقطق لسلام عليكو.. لكن.. وهنا كان تساؤلها غريباً وعلى غير المتوقع: - لكن إيه رأيكم فى الدولاب البلاكار الموجود وراء مكتب المرحوم؟ فى موكبنا المتدافع خلف الخصمتين إلى صومعة الراحل اتجهنا تبعاً لمسيرة التحقق والتدقيق إلى الدولاب البلاكار.. أرشدتنا الزائرة إلى الضلفة الوسطية المسطحة الخالية من الكتب والمجملة بصورة للأستاذ فى حفل تكريم يتسلم فيه شهادة الفخار من الرجل الكبير، حيث أنزلت الصورة لتعالج ثقب المفتاح الذى ظهر من خلفها لتمرق أمامنا كالشبح داخل الضلفة لتفتح بابا سرياً فى الحائط المقابل يقود إلى شقتها.. إلى غرفة نومها.. إنها جارة الحائط الآخر فى العمارة الحديثة الملاصقة عقد عليها المرحوم القران منذ أكثر من عام، والآن تضم بين أحشائها جنيناً فى شهره الثالث حكم عليه الزمان باليتم وهو يا عين أمه عينه لم تر النور ليغدو عندما يرى النور أحد ورثة المرحوم.. الحنين.. النزيه.. العادل.. المحترم المتدين الذى كان يقضى معها الليل بطوله ليعود بعد صلاة الفجر طاهراً قانتاً.. ملتزماً لشقته من خلال نفق البلاكار وكل حى فى عالمه وكل زوجة فى مملكتها وكفى الله المؤمنين شر القتال.. وكان طبيعياً أن ينفض مولد العزاء وأن تخلع الأرملة صاحبتنا السواد.. وأن تسد الباب الذى أتى لها بريح صرصر عاتية.. والآن وأنا فى هذه الأيام العضال أضع يدى على قلبى كلما ارتفع البناء بدور جديد فى العمارة الشيطانية الملاصقة التى سدت علينا الهواء والنور بلا استئذان فى مربع ناطحات كان فى الأصل ممرات للهواء العليل ما بين حدائق القصور والفيللات. ولا يهدئ من روعى سوى أن فتحات الحائط المقابل المشعلقة الدائرية تنبئ ولله الحمد بأنه مصمم لدورات المياه!!.. وغير هذا وذاك أن الزوج المغفور له قد مات منذ أكثر من خمس سنوات! مشرفة.. الهرم الرابع أنا كنت فاكرة إن «مصطفى» هو «على»، وإن العالم المصرى نظير أينشتاين هو فى الوقت نفسه الأديب صاحب الرواية الخالدة «قنطرة الذى كفر».. وقعدت أفتى وقعدت أحكى عن السر الدفين فى زواج العلم والأدب، وصعَّدت الحكاية للعلالى بوحدة المعرفة الإنسانية وأن الأديب الذى لا يمتلك منهجاً علمياً فى كتاباته لا يمكن التفريق بينه وبين كاتب العرائض على باب المحكمة، وأن العقل الإنسانى الذى ابتكر العلم قد ابتكر الأدب، وهو عقل واحد فى جوهره لو أصيب بأى انفصام أو انفصال فقل على العالم السلام، وأن صيحة أرشميدس وجدتها كانت العاطفة فى قمتها وقد تجسدت فى الانتصار العلمى الذى اكتشفه.. نهايته قعدت أقول واعمل المستحيل لأضع العلم والأدب فى سلة واحدة من أجل عيون الدكتور مشرفة، لأنى كنت فاكرة إن «مصطفى» هو «على» وإن «على» هو «مصطفى»، وفضلت زمنا أخلط الأوراق وأعك فى السيرة المشرفة.. وأضرب أمثالا وأدلل على قولى بالدكتور الطبيب يوسف إدريس ملك القصة، والدكتور الطبيب مصطفى محمود الفيلسوف، والدكتور سعيد عبده ناسج الموال، والدكتور إبراهيم ناجى من زاحم الشعراء لتغنى له أم كلثوم قصيدته الأطلال... ويأتى من بعدهم الدكتور أحمد هيكل لينادى بتضييق المساحة ما بين الاثنين (الأدب والعلم) فيما يسمى تأديب العلم أو تعليم الأدب، وكان ابن خلدون فى زمانه المبكر قد أدرك الروح العلمية فى الإبداع الأدبى لدرجة أنه أسماه علم الأدب، ومن قبلها نجد فى ألفية العالم ابن سينا شعره القائل: والشعراء أمراء الألسن كما الأطباء ملوك البدن وربما يعود هذا الالتباس حول «على» و«مصطفى» الذى وقع فيه الكثيرون مثلى إلى أن الوالد الشيخ «مصطفى عطية مشرفة» قد أطلق على ابنه البكري- عالمنا الجليل- اسم (على) فأصبح «على مصطفى مشرفة»، وعندما أنجب آخر العنقود من بعد على ونفيسه وعطية وحسن أسماه «مصطفى» ليغدو «مصطفى مصطفى مشرفة» ليُختصر الاسم إلى مصطفى مشرفة فقط، وقد رسخ فى الأذهان هذا الالتباس بين الشقيقين لأن شهرة العالم «على» وتفوقه الفذ عالميا ومحليا قد تضاءل إلى جوارها ذكر الأديب «مصطفى» الذى شحَّت المعلومات عنه مع عزوفه عن الأضواء وإقامته لفترات طويلة خارج البلاد، إضافة إلى إصابته بنوع من الالتهاب المفصلى فى مقتبل حياته مما جعل حركته تتيبس بالتدريج إلى درجة لم يعد معها قادرا على الحركة فبقى مصطفى بلا سيرة وتاريخه بلا تاريخ، خاصة أنه قد سكت عن أهم منطقة فى حياته التى انضم فيها إلى التنظيم السرى لثورة 1919 واشترك فى أعمال فدائية موجهة إلى جيش الاحتلال الإنجليزى لم يفصح عنها إلا فى عام 1957 لصديقه القريب الكاتب محمد عودة: «كنت فى التنظيم السرى للثورة وكان رئيس التنظيم سعد زغلول، وكنا نتدرب على استعمال أنواع الأسلحة فى الغابات المتحجرة فى منطقة المقطم وكان لابد لكل منا أن يحافظ على سلاحه، وكانت الثورة الشعبية على أشُدِّها وقتها حينما حاول الإنجليز أن يفصلوا بين الأقباط والمسلمين لإيجاد فتنة داخلية تعرقل الثورة، ولما كانت شبرا تضم غالبية الأقباط فقد وقف الإنجليز عند كوبرى شبرا ليمنعوا اختلاط أهالى شبرا ببقية المواطنين، وجاء الأمر من التنظيم إليّ أنا وأبودومة لنقتل حراس الكوبرى لنفك الحصار على مجاميع المسلمين والأقباط، وعندما انطلق الناس إلى بعضهم عرجنا أنا وأبودومة على قهوة البوسفور فى باب الحديد لنلعب الطاولة!!» فى ذلك الوقت كان «على» يدرس فى جامعة لندن للحصول على البكالوريوس فى الرياضة التى تتطلب شهادتها أربع سنوات اختصرها إلى ثلاث مع مرتبة الشرف، وعند قيام الثورة شعر بحرج موقفه وهو فى بلد أعدائه الإنجليز فكتب يستشير أخاه «مصطفى» فى العودة فأشار عليه بالبقاء، وعندما علم «على» بسجن مصطفى كتب من لندن خطابا يفخر فيه بالأخ الذى أدى ضريبة الوطن نيابة عن أسرة مشرفة.. وقد كتب مصطفى روايته الفريدة بالعامية «قنطرة الذى كفر» حول موضوع عاش فى وجدانه ثلاثين عاماً عن ثورة 1919، حيث لم يضع الثورة عن عمد داخل روايته وإنما كتب عن وقعها على نفوس السكان فى المنطقة الشعبية المسماة «تحت الربع»، وقنطرة فيها لم يكفر وإنما كان هناك مَنْفَذ أو وصلة نابعة من درب الجماميز اسمها «قنطرة كفاريللى» وهو اسم عالم كيمياء صَاحَبَ الحملة الفرنسية، فقلبها الناس إلى قنطرة اللى كفر ثم إلى قنطرة الذى كفر، وحيث إن أحد أبطال الرواية اسمه الشيخ عبدالسلام قنطرة، فقد جاء الاسم من هنا، وجاء ليضيف بعداً سحيقاً إلى الرجل باعتباره فعلا قنطرة، وقنطرة الذى كفر بالثورة ليعود يؤمن بها... ولأنه مكتوب على جبينى أن أظل متشعتفة ما بين شقيقين اسميهما «مصطفى» و«على»، من بعدما قضيت نصف عمرى فى مدرسة مصطفى وعلى أمين الصحفية، فقد قررت مع الأخوين مشرفة فض الاشتباك.. وعلى أرض الحقائق التاريخية ومع من يعطيهم الله طيلة العمر ممن عاصروهما جمعت تاريخا ووثائق وقطّعت روحى شظايا وعدت لجمعها فتهت ثانية ما بين «الأديب مصطفى» الذى قرأه يوسف إدريس فأصيب بالذهول، و«العالم على» الذى لم يحمله أحد على كتفه ليصعد به درجات المجد.. من درس مجاناً بتفوقه لا بقرار.. من وصل إلى مكانته بعلمه لا بصداقة لصاحب نفوذ أو سلطان.. من أعطاه علمه ليرفع رأسه.. وأعطاه القوة ليصمد.. وأعطاه العزيمة ليقاوم وينتصر.. مصطفى وعلى.. البر والبحر، وقد اخترت اليوم النزول فى البحر.. والغرق والاستغراق فى «على مشرفة».. «على».. فى يوم 11 من يوليو 1898، لم يكن أحد يظن أن الطفل الذى ولد فى حى المظلوم بمدينة دمياط سيكون على مدى ربع قرن أحد النوابغ فى علم الرياضة البحتة فى العالم وأنه سيحتل مكانته بين كبار علماء الذرة.. لم يكن أحد يعلم أن الطفل الصامت بعيونه الثاقبتين ووجهه الذى لا يعبر عن شيء سيأتيه يوم يقول فيه إن الدكتوراه أعظم من الباشاوية التى خلعها عليه فاروق، ولم يذهب إلى السراى ليقدم الشكر على الإنعام الكريم من المليك المفدى. ولم يكن أحد يعلم أنه سيقول للمندوب السامى البريطانى اللورد كليرن فى مقر السفارة البريطانية عندما سأله مستفزاً: «أحقا يا دكتور مشرفة أن غالبية الشعب المصرى تكرهنا؟». فرد عليه الدكتور مشرفة بحزم: «وهل هى الأغلبية فقط؟! وماذا عن الأقلية أيضاً!!».. ولم يكن أحد يعلم أن أينشتاين سيقول عنه يوماً: «هذا العالم الفذ لابد أن ترعاه مصر كما ترعى أهراماتها». وكان أينشتاين قد دعاه ليلقى محاضراته عن الذرّة فى جامعة برنستون حيث كانا معا يدعوان لقصر استخدام الذرّة على السلام فقد كانا يعرفان معا سر تفتت الذرة وأثرها المدمر فى الحروب.. ولا تزال جريدة الأهرام تفخر بمقالاته على صفحاتها فى عام 1945 عندما كتب عن القنبلة الذرية التى ألقيت على كل من «هيروشيما وناجازاكى» فى نهاية الحرب العالمية الثانية، ورغم دعوته لتحديد وحصر استخدام الذرة فقد كان يحفز مصر إلى البحث الذرى وبناء المفاعلات فيقول فى أحد مقالاته: «إننا يجب أن نصنع القنابل الذرية، لا لنعتدى بها ولكن لندافع بها عن وطننا إزاء الدول المعتدية علينا، وإن محض اقتنائنا لهذه القنبلة كاف ليرد عنا أى عدوان». وأضاف مشرفة: «إن معدن اليورانيوم موجود فى صحراء مصر الشرقية على ساحل البحر الأحمر والواجب الوطنى يحتم علينا التنقيب عنه واستخراجه لنغدو فى مصاف الدول التى يحسب لها ألف حساب»..! على.. كان والده مصطفى عطية أحمد جعفر مشرفة أزهريا ثريا اشتغل بالمحاماة عامين ثم تفرغ لأعماله يتيه بين أملاكه الزراعية «200 فدان» مرتديا عمامة ضخمة يقلد فيها عمامة جمال الدين الأفغانى.. أب صعب المراس يحكّم العقل فى كثير من شئون الدين فى وقت أغلق الناس فيه باب الاجتهاد، ويوافق صديقه الإمام محمد عبده على أخذ أرباح دفاتر البريد فيُرمى بالإلحاد كما رُمى الإمام وتأتى أزمة القطن الشهيرة عام 1907 فتصيب الأب فى مقتل معنوى ليموت بعدها كمدا عام 1910، بينما «على» لم يزل فى العاشرة يستعد لنيل الشهادة الابتدائية مع ناظر مدرسته فيرسب الناظر ويأتى ترتيب «على» الأول على القطر، وتكون الأم رئيفة بنت أوجا بك قد انفصلت عن الأب وتزوجت من غيره قبل موته، فيغدو الصغير وهو لم يبلغ العاشرة رب أسرة موردها الشهرى 4 جنيهات من أملاك صغيرة للأم، وينتقل الصغار على ونفيسة وعطية وحسن ومصطفى لحارة «محوبك» فى عابدين تحت رعاية الجدة فاطمة الحزبية.. وتنفصل الأم ثانية لتعود لأبنائها وتموت وقت امتحان «على» فى البكالوريا، وهنا يأتى ترتيبه «الثانى» حزناً عليها.. فى الجو الغريب المشحون بالمتناقضات نشأ «على» بين أب عنيد وآراء دينية جريئة وأم حنون وخلاف بين الأب والأم فكلاهما على طرفى نقيض، وزمجرة من الفلاحين تجاه الآراء الدينية المتحررة، وصراع وعناد وثراء يتبدد فى لحظة، وأحداث جسام تهز عقل الصغير فيجرى إلى شاطئ دمياط ينظر فى الماء ساعات ليغسل الموج والنسيم اضطرابه ويعود لينكب فوق كتاب يغرق فيه إلى أذنيه ويرقب من بعيد صامتا لا يتكلم.. ويروح على، ويغيب على، ويتغرب على، وينجح على، وينجز على.. باقة الحس المرهف من استقراء الكون والفضاء وعلوم الأرض وانقسام الذرة والفلسفة.. وتنحني ل«على» جامعات الأرض، وتتفجر من عبقريته النظريات، وتتوالى الأبحاث، ويرأس فى إنجلترا بإنجليزيته الضارية جميع المناقشات.. العالم الذى أجاد لغة الضاد والأرقام والأفلاك وحفظ القرآن ومقام الإنسان فى الكون، وتسامى لتسكنه الموسيقى، وشف ليقرأ الشعر ويحفظه ويرسله.. العالم الموسوعى الذى بلغت أبحاثه مائتى بحث كانت تؤهله حتماً لجائزة نوبل.. «علي مشرفة» من استعصت المرأة علي فهمه وسط خضم اهتماماته بالعلم يلتقى ب«دولت» ابنة حسن باشا زايد صاحبة الصون والعفاف التى لا تخرج من بيتها إلا فى صحبة والدتها، فيعجب بها ويتقدم ويعقد قرانه عليها فى 3 يناير 1932. وبمجرد زواجها منه انطلقا يطرقان معا أبواب العالم الواسع بعد أن عرَّفها إلى جميع أصدقائه، وسافرا على أجنحة السعادة لشهر العسل فى أوروبا، حيث كانت ليلة الدخلة على متن الباخرة، ووسط العسل صادف وجود مؤتمر فى زيورخ لبحث علاقة العلوم الرياضية وتطبيقاتها فى الميكانيكا والفلك والإحصاء والطيران والتليفون والتليغراف السلكى واللاسلكى فقام العريس بقطع موارد العسل العاطفى من بعد أسبوعه الأول ليلبى دعوة المؤتمر للغرق فى صواميل الميكانيكا والأجهزة.. وتروى الزوجة للدكتور عطية - شقيق زوجها - أنه لما كان فى باريز لاحظت أنه يتباعد عنها ليحضّر أوراقه لإلقاء محاضرة مهمة فى الرياضيات العالمية، ولما شعر بمتابعتها العاتبة قال معتذراً: المزاحم الوحيد لك فى حياتى هو (عملي) لأنى أنسى كل شىء إلا هو، وآسف ومعذرة أن أقول حتى أنت.. وما كان يحدث فعلا أنها كانت تذكره بوقت الغداء والعشاء ليتناولهما معها شاردا.. ويسألها عطية: وكيف كان أخى يمضى فراغه؟ فأجابته دولت: «كنا نذهب إلى السينما أو لزيارة أحد أصدقائه أو أقربائه بدعوة مسبقة، أما انكبابه الفعلى على عمله فلا يحدث إلا ليلا، وقد يستمر فيه حتى الفجر أحياناً، وكان نظامه أن يعمل ما لا يقل عن ثلاثة أرباع اليوم، وكثيرا ما كان يكتفى من النوم بثلاث ساعات. ساعة فى العصر ما بين الرابعة والخامسة يقوم بعدها ليتناول الشاى مع الأسرة، وساعتين بعد الفجر من الخامسة إلى السابعة، أو من السادسة للثامنة صباحاً، وكنت ألاحظ أنه كثيرا ما كان يذهب للبيانو ليعزف عليه من وقت لآخر ليريح نفسه من العمل المرهق، وكان فى عزفه يهيم مع ألحان بيتهوفن وفاجنر وشوبرت ومندلسون، وألحان من الموسيقى الشرقية القديمة التى دفعته إلى البحث عن السلم الموسيقى المصرى وإلى بيانو عربى تكون مفاتيحه هى نفس المفاتيح الأفرنجية مضافاً إليها 12 مفتاحا.. وكان يقيم بمنزلنا حفلات شاى يتبعها عشاء لبعض الأصدقاء يومى عشرة وعشرين من كل شهر ويقول لي: إن هذه الدعوة نعملها للطلبة قبل الأساتذة فاهتمى بهم يا دولت أولا، وكان يقوم بنفسه بخدمتهم!.. ولا أنسى فرحته يوم استطاع إقناع مجلس الجامعة بقبول الطلبة والطالبات من البلاد العربية والشرقية، وكان غضبه شديداً من سكرتيره إذا منع أى طالب من الدخول إلى مكتبه لعرض مشكلته مهما تكن.. وكان يقول لى إنه يتجدد ذاتياً ويشعر بميلاد جديد كلما تخرج أحد تلامذته تحت رعايته فى الجامعة ليغدو بدوره أستاذاً يسلم الراية لمن بعده.. أما هواياته إلى جانب الموسيقى فكانت التنس والجولف والكروكيه وتعلم قيادة السيارات التى مارسها فى سنوات البعثة الأولى عندما عاش مع عائلة مثقفة بإحدى ضواحى مقاطعة «ديفنشر» عمادها سيدتان كانتا فى سن والدته- كما قال لى- هما مسز «هوسيل» ومس «ليثبردج» التى روت عنه فيما بعد: لقد مكث مستر على عامه الأول معنا يتصرف كرجل فى الخمسين وهو الذى لم يكن قد بلغ العشرين، بعدها أقلع عن ذلك الوقار والاعتكاف وانصرف إلى الموسيقى والتنس وركوب الدراجات وقيادة السيارة ورعاية الزهور، وأجاد العزف على البيانو والكمان، وفى إحدى المرات التى كان فيها بصحبتى فى إحدى الحفلات الموسيقية فى لندن وفى أثناء العزف وقد ساد السكون إلا من النغم المنساب انطلقت فجأة من وسط الصالة صرخة استنكار.. كانت صادرة من المقعد الذى يجاورنى والذى يجلس عليه مستر على، ودهش الحاضرون لهذا التصرف من المصرى الأسمر، ولكن دهشتهم زالت لتصرف المايسترو الذى ما إن انتهت المقطوعة حتى نزل من فوق المسرح متوجهاً إليه منحنيا أمامه ليصافحه شاكراً، فقد كان هناك خطأ فى الأداء هو الذى دفع «على» إلى هذه الصرخة. الدكتورة سلوى آخر العنقود قالت عن وفاة والدها فى سن الثانية والخمسين دون معاناة من مرض عضال- اللهم إلا شكواه من توتر الأعصاب والكبد وضغط الدم أنها لم تستطع إثبات أن وفاته كان وراءها أيد صهيونية خشيت أن ينجح العالم المصرى فى صناعة القنبلة الذرية.. هذا رغم وفاة تلميذته الدكتورة سميرة موسى التى لقيت مصرعها فى الولاياتالمتحدة بعد وفاته بأقل من ثلاث سنوات، ولا صحة- فى رأيها- للشائعة الخبيثه التى سرت من أن الملك فاروق كان وراء موت أبيها بالسم.. لقد تناول الشاى فى غرفته استعداداً لارتداء الملابس الرسمية للذهاب لحفل افتتاح البرلمان وبعدها رن جرسه الطويل لعله كان يحثنا به على سرعة الحضور لإنقاذه لكنه كان فى غيبوبة النهاية. ويقف طه حسين فى صالة جامعة فؤاد الأول يقول عن حديثه معه قبل الرحيل بساعات: «كان صوتك ضعيفاً، أشبه الأشياء بصوت المتحدث حين يتحرك القطار. يتحدث من النافذة، فيسمع إليه الواقفون، وإن حديثه ليتناقص شيئاً فشيئاً.. رحل على مشرفة وأمثاله قليلون إذا خسرهم الوطن، فلابد من صبر طويل وانتظار مرير متصل.. مات مشرفة لأنه اشتعل وتوهج أكثر مما يجب فاستنفد ما فى مصباحه من زيت!». مات على مشرفة مع مصحفه الذى لازمه طوال حياته. وقبل انتهاء مهلة الإنذار التى لا تتعدى أربعة أشهر فقط بهدم مقبرته بالبلدوزر عام 1988، لإنشاء طريق الأوتوستراد سارع الدكتور عبدالعزيز كامل، وزير الأوقاف بنقل الرفات إلى حديقة مقبرة الخديو توفيق، ليرحب الحفيد الأمير محمد عبدالمنعم بالجوار المشرِّف، ويعتذر لعدم حضوره لوجوده في الخارج ليشارك فى حمل الجثمان بنفسه كى ينقله إلى مقبرة جده الخديو توفيق. مات العالم على مشرفة وليته قد أنشأ قبل موته جامعة باسمه فى بلده، لا أن يستولى باسمه على جامعة كان لها اسم آخر طُرد منها طلابها الآن ليتلقون علومهم الرفيعة على الرصيف..! النيل والباز والمحور الوهم عالمنا المصرى الجليل الدكتور فاروق الباز يسافر إلى أمريكا ويغيب ويغيب ويغيب ويعود بابتسامته المستعرضة كالأوانى المستطرقة ليداهن الشباب فى ثورة 25 يناير واصماً جيل الآباء الذى لا يستخدم الفيس بوك والتويتات والشات بالتخلف والخمول والخنوع وكأنهم خيل الحكومة المهكع الواجب تصفيته برصاص الرحمة.. ويسافر الباز ويغيب ويغيب ويغيب ويعود من سفرته ليقول لنا «ولا كلمة واحدة أسمعها بلهجة اعتراض بشأن سد النهضة فالحق وحده لدولة إثيوبيا فى بناء ما تشاء من سدود على شريان مائنا الوحيد».. ونسى أن الحبشة تملك 19 نهراً آخر بخلاف البحيرات العذبة والأمطار النقية وقد أقامت السدود الفعلية على 13 منها.. ولأن الدكتور فاروق يغيب ويغيب ويغيب فقد غاب عليه أننا نعيد استخدام مياه الصرف الصحى لنشربها ملوثة ونزرع بها ونطبخ بها ونتوضأ بها وندعو فى صلاتنا على من لا يتقى الله فى فشل أكبادنا.. ونصيحتنا للعالم الكبير أن يظل مبقياً على طرحه لمشروعه الهلامى لمحور التنمية عندما يغيب ويغيب ويغيب ويعود بسلامة الله لأرض النيل إذا ما كان هناك- على ضوء نصيحته الغراء- ساعتها نيل!! لمزيد من مقالات سناء البيسى