أول من يضحى وآخر من يستفيد .. كانت تلك الجملة عنوانا لواحد من سطورى فى هذا الأهرام الشامخ بقدراته المتجددة على رصد كل تفاصيل الحياة فى بر المحروسة . وحتى كتابة هذه السطور لم تكن هناك فئة يغلب على أسلوب حياتها قدرة التضحية دون البحث عن استفادة سوى القوات المسلحة المصرية التى تعرضت عبر التاريخ إلى محاولات التقزيم ، دون أن تستسلم لأى محاولة منها ، فكانت تخرج من تلك المحاولات لتعطى هذا الوطن كل شيء حتى الدم نفسه . عن نفسى وفى تلك اللحظة التى أكتب فيها هذه السطور أتذكر الأميرلاى محمد عبيد الذى انصهر جسده مع مدفعه، وهو يقاوم احتلال إنجلترا لمصر فى أثناء المواجهة بين جيش مصر بقيادة عرابى وجنود الاحتلال الإنجليزى . ولا يغيب عن ذاكرتى بطولات هائلة بأسلحة متواضعة قام بها ضباط وجنود إبان حرب 1948 ، وكنا كطلبة شهادة الدراسة الإبتدائية عام 1951 بمدرسة محرم بك الإبتدائية نستمع لمدرس خاض تلك الحرب كمتطوع ، وعاد يحمل وساما ، ولم نكن نمل مطالبته بأن يحكى لنا كيف ساهم فى فك حصار الفالوجا ، ولم نكن نعلم أننا بعد أشهر سنشهد ميلاد ثورة تقلب الميزان الكونى لتتحرر عبر نداءات يوليو 1952 ثلاث قارات هى آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية . ولم نكن نعلم أن مناقشات «النخبة» عبر الأحزاب التى كانت موجودة هى نخبة هشة ، لا تمل من صبنا فى قوالب القفز على حبل الانقسامات الحزبية التى كانت سفارات الخارج ، وقوى تفتيت الداخل تقف بالمال، وكل فئة متناحرة لها سيد غير مرئى يصوغ لها أفكارا تتصادم مع أفكار الفئات الأخرى ، دون وجود حد أدنى من التوافق . وكنس المصريون بقيادة جمال عبد الناصر كل مظاهر التضاد والتنافر، ومن إعجازات المصريين خطة تنمية وجدت من يشيد بها أخيرا ويعلن رفضه لبيع مصانعها وهو المهندس إبراهيم محلب . و بعد أن أنجز المصريون حق إرواء عطشهم إلى حياة مقبولة جاء عدوان يونيو يتسلل بين أخطائنا الصغيرة ، لتحدث هزيمة عسكرية قبلها العسكريون ليؤسسوا من بعدها تدريبا وقوة تزلزل قوانين القتال المتعارف عليها عبر التاريخ . وليبدأ من بعدها مسلسل غزل ونسج تدمير هذا الانتصار الصاعق الذى حققناه فى أكتوبر 1973 ، وكانت البداية بزراعة بذور الأطماع الصغيرة ، حيث تمتد أمام كل طامع جزرة الحلم بحياة أرقى من التى يحياها دون أن يدفع قيمة عمل تساوى تلك الحياة التى يرغبها . تضخمت أحلام الكسب السريع والارتقاء على سلم الكسب غير النظيف القائم على السمسرة أو التجارة فى العملة أو المضاربة على الأراضى ، أو غير ذلك من الأعمال التى لاتضيف إلى الاقتصاد فرصة عمل ، بل تزيد فقط من ملامح فقر الدم الظاهرة على أجساد الأجيال الشابة ، ولتنتشر العشوائيات بأخلاقياتها التى جعلت من طبال أمير جماعة متأسلمة ، وجعلت من جاهل يغرس سكينا فى رقبة سيد الرواية العربية نجيب محفوظ ، وبجمود عصر مبارك وتوحش قلة من الذين تصاهروا وتناسلوا عبر شبكة السلطة والثروة كان لابد من أن يأتى زلزال الخامس والعشرين من يناير ليضع حدا لهذا التوحش الذى أنهك المجتمع ، ولولا مساندة القوات المسلحة لما وقع فى الخامس والعشرين من يناير لما انتهى عصر التوحش الصاعق ، وجاء المتأسلمون بتوحش مختلف ، ليسقطوا بعد عام واحد من حكمهم الذى أوجزته كلمة القائد «يا تحكمونا .. ياتموتونا» . وبعد رسم خريطة مستقبل شديدة الوضوح دقيقة المراحل ، سقط من أراد التلاعب بنا على مائدة المجتمع الغربى مثل محمد البرادعى ، وسقط معه أهل الثرثرة بأفكار عن مبادئ لا تستطيع أن تزرع سنبلة قمح أو تفتح باب رزق ، وأن تدرب شابا على مهنة ما . والآن لا تفيد الثرثرة و العواء ، ومناداة الديقراطية وكأنها ليست سوى صراخ فى صراخ ومظاهرة تتلوها مظاهرة أخرى ، فهذا الأسلوب هو الذى يمكن أن يفتح باب عودة المتأسلمين عبر تمزيق قدرات الوطن. إن أطماعنا الصغيرة ليست إلا مستنقعا ، لأن ما يطلبه كل فرد من امتياز دون مهارة أو جدارة، فهذا الامتياز لو تحقق فلن يروى عطش أحد. المطلوب أن ننتظر أجرا على ما نبذل من جهد لا على تعظيم أدوار نحن نعلم أنه تعظيم غير حقيقى ، ونفرض شروطا ثقيلة على الواقع فيترنح المستقبل بين أيدينا ونعود إلى ساقية التخلف . إن علينا نحن المدنيين أن نتعلم من العسكرية المصرية قدرة تضحية ، نؤجل بها بعضا من أحلامنا المستحقة، لأنها مختلطة بتعظيم لجهد لم نبذله بجدية تليق بنا ، لنحقق أسلوبا جديدا وجادا فى حياة مقبولة بحدها الأدنى كطريق لحياة لائقة بحد أعلى من الأدنى . فهل نحقق ذلك هنا يمكننا أن نقول إننا خرجنا من أوحال مستنقع الأطماع الصغيرة لنحقق الحياة فى وطن يليق بنا . لمزيد من مقالات منير عامر