فى ظل التغيرات الحادة والسريعة والمتلاحقة ، وفى ظل حالة الغموض وانعدام اليقين حول ما يمكن أن يحدث ، ومع تكاثر التحديات وتنوعها وتشابكها ، أصبح من غير الممكن إدراة شئون الدولة دون رؤية استراتيجية . لقد أضحى انتهاج المنحى الاستراتيجى ضرورة حتمية أومن قبيل الواجب اللازم لأى دولة ، وهى بالنسبة للدول التى تمر بحالة من الاضطراب أو التحول أكثر ضرورة ، أوهى أوجب وألزم . ذلك أن التوجه الاستراتيجى يعد بمثابة منهجا لتشخيص القضايا والتحديات من ناحية، واستشراف المستقبل من ناحية أخرى ؛ ومن ثم فهوالأقدر على ملاحقة التغيرات السريعة ، وعلى توقع المفاجآت والمخاطر التى يحملها المستقبل والاستعداد لها ، وهو الأنجح فى حل لغز الغموض الذى يحيط بما يمكن أن يحدث ، وهو الأنجع فى التغلب على التحديات والمشاكل ، وهو الأجدى فى الحفاظ على بقاء الدولة وتحسين أداءها لوظائفها . ولعل غياب الرؤية الاستراتيجية يفسر إخفاق كثير من الدول فى مواجهة التحديات ، ويفسر فشل كثير من النظم فى القدرة على التكيف وفى تقدير ما يمكن أن يحدث . ولاشك أن التوجه الاستراتيجى فى التفكير والتخطيط يتجاوز عيوب التخطيط التقليدى ويتجاوب مع طبيعة المرحلة ؛ فهو معنى بكيف نفكر وليس فيم نفكر ؟ ومن ثم فهو منهج أكثر منه موضوعا ، وهو وقاية أكثر منه علاجا ... لقد آن الأوان أن يكون لدى الدولة منهجها فى التعامل مع القضايا والتحديات بدلا من التعامل بالقطعة أو يوما بيوم ، وأن تتبنى تصورات للوقاية من المخاطر حتى لا تحدث ، وألا يقتصر أداؤها على تقديم حلول للمشاكل وإنما أن تضع الترتيبات وتخلق المواقف التى تجعل كل المشاكل - الآنية والمستقبلية - قابلة للحل ، ولعل ذلك هو ما يتوخاه التوجه الاستراتيجى . ومصطلح الاستراتيجية كثير الاستخدام ، فقد تشاركت فى استخدامه حقول علمية عديدة ، وتقاسمته مدارس فكرية متنوعة ، وانتشر بمعان متعددة .... انتشر بمعنى المفهوم ، أو الخطة ، أو طريقة العمل ، أو التصور لاتجاه معين يسلكه الفرد أوالمنظمة أو المؤسسة أو الحكومة أو الدولة . رغم ذلك تظل دلالات المصطلح واضحة ومحددة ، وهى الأهمية التى يتوافر عليها الموضوع أو الموقف أو النهج الذى يمكن أن يوصف بأنه استراتيجى ، وشمولية الرؤية ، والنظرة المستقبلية . هذه العناصر الثلاثة تمثل شروطا جوهرية للوصفة الاستراتيجية، وغياب أحدها يفقد الوصف معناه . وعموما ترجع نشأة المصطلح إلى المجال العسكرى ، وهو يعنى - فيه - إدارة المعارك من أجل كسب الحرب ، وعرفه مجال الأعمال بمعنى إدارة المنافسة لكسب الزبائن . وبنفس المعنى انتقل إلى القطاع العام فى بداية الستينيات، ثم شهد نقلة نوعية عندما دخل حيز الدوائر الحكومية فى بداية الثمانينيات، حيث استخدمته هذه القطاعات فى تشخيص الفرص والتحديات التى تواجهها، وصياغة وضع مستقبلى مرغوب وكيفية الوصول إليه. واليوم أصبح التخطيط الاستراتيجى نهجا تعيشه مؤسسات الدولة ليضمن بقاءها ويرشد أداءها، وذلك بوصفه منهجا للتغلب على المشاكل والتحديات، والتحكم فى المستقبل من أجل تعظيم الفرص وتقليل المخاطر. والاستراتيجية قضية معرفية بالدرجة الأولى تحتاج فهما خاصا ، فهى تجمع بين العلم والفن. وهنا تلتقى مع السياسة فى أنها «فن الممكن»، ويجب أن نضيف بخصوص الاستراتيجية أن الممكن ليس هو المتاح فقط كما يظن البعض ، ولكنه ما نستطيع أن نوجده ، فدائما هناك بدائل .... والاستراتيجى قادر على إيجاد البدائل . ولكونها تجمع بين العلم والفن يمكن استخدامها لأغراض معيارية حول ما ينبغى أن يكون ، أولأغراض وصفية حول ما هو كائن . وهى إذ تتوخى التخطيط للمستقبل ، فإنها تتأبط تشخيص الحاضر ، وفى نفس الوقت عينها على تحليل الماضى. ومعنى ذلك أن للاستراتيجية « منطق» وأن هذا المنطق يحدده المجال الذى تستخدم فيه والغرض منها . وبصفة عامة فإن الاستراتيجية تعنى الإعداد لظروف مستقبلية غالبا غير معروفة ، أوهى اختيار لمستقبل مرغوب ، وتحديد لأساليب الوصول إليه . بعبارة أخرى هى تصور شامل على المدى الطويل يستوعب التغيرات المستمرة وغير المتوقعة .. وهى توظيف لكافة الموارد بأفضل صيغة ، لخدمة المصالح العليا للوطن ، وهى نظام هادف يجسد اختيارات انتقائية تتعلق بالقرارات والأسئلة الصعبة . ومن ثم فهى ليست ساكنة بل متحركة ، وليست ثابتة بل متغيرة- وإن كان لها ثوابت . والتخطيط الاستراتيجى هو دراسة الواقع بكل أبعاده ، ومن فرص وتحديات ، وصياغة أهداف مستقبلية بناء على ذلك ، ووصف برامج عملية تكفل الوصول إلى هذاالمستقبل المنشود . والتخطيط الاستراتيجى الناجح هو الذى يتحلى بشمول الرؤية ، وهو الذى يؤدى إلى فعل مثمر ، ويستشرف المستقبل ، ويتأسس على بيانات صحيحة ، ويستند على قيم مشتركة ، ويقبل المراجعة كما يقبل النقد والمساءلة . ومن ثم ففى التخطيط الاستراتيجى نحتاج إلى معرفة الكثير نظريا ... ربما من أجل الحصول على القليل عمليا . والحديث عن رؤية استراتيجية على صعيد الدولة الوطنية ومؤسساتها ، يستلزم وضع القواعد والخطوط والألوان والضوابط التى تبين كيفية رسم هذه الرؤية . بعبارة أخرى يقتضى تقديم إطارعام لكيفية صنع الاسراتيجية المطلوبة ، أومنهجية للتخطيط الاستراتيجى ، وهى مسألة ليست سهلة ولا بسيطة ، لكن الاستراتيجى الجيد هو الذى يستطيع أن يقدم المنطق الاستراتيجى بأيسر طريقة وبأبسط التعبيرات. كلية الاقتصاد والعلوم السياسية لمزيد من مقالات د.صلاح سالم زرنوقة