من أكثر ما كشف عنه «حراك» 25 يناير وتوابعه، أننا فى لحظة فارقة ذات طبيعة صراعية مفتوحة على كل المستويات، حيث تبين لنا اننا بعيدون جدا عن جديد العالم فكريا وثقافيا ومعرفيا. ولأن «الحراك» ومن بعده «التمرد»، قد أطلق لدى شرائح من المصريين رغبة فى الانطلاق نحو التقدم من خلال إعادة بناء الدولة المصرية الحديثة، فإنه لا يمكن أن يحدث ذلك دون الانفتاح على الدنيا الجديدة. وتمثل الترجمة قاعدة الانطلاق للتقدم. ويمكن رصد ثلاثة أسباب اساسية تدعونا إلى دعم كل جهود الترجمة الوطنية، الحكومية والخاصة. السبب الأول: أن الفجوة المعرفية قد اتسعت بما يمكن تقديره بأربعة أجيال معرفية على الأقل فى العديد من المجالات. وهو ما أشرنا له عمليا عندما درسنا الموجات الدستورية الجديدة مقارنة بآخر ما تفتق عنه العقل الوطنى فى هذا المقام، أو أثبتناه، عندما كلفنا مرة بإعداد بحث لطلبة دراسات عليا حول الأدبيات المعاصرة فى الحقل المعرفى المتعلق «بعلاقة الدين بالمجتمع والدولة فى العالم»؛ فوجدت فجوة معرفية كبيرة بين ما يعرفه الطلبة من «كتابات تأسيسية»، ظهرت فى منتصف القرن التاسع عشر واستمرت حتى الثلث الأول من القرن العشرين فى هذا المجال: لهيجل ودوركايموفيبر وماركس وتوكفيل وشميد تودرلووي، سواء من خلال الترجمات أو القراءة المباشرة باللغات الأصلية، وبين كتابات الموجات التالية التى يمكن رصدها فى أربعة موجات: منذ قبل الحرب العالمية الأولى إلى يومنا هذا. حيث غابت الترجمة، وصرنا لا نعرف فى المجمل منهم أشهر من الرموز الفكرية لهذه الموجات خاصة موجتها الأخيرة: الأهم والأعمق، ذات المعالجة المركبة والمتداخلة. حيث بات لدينا علم اجتماع مركب له تجليات اجتماعية وثقافية ودينية وسياسية، كما تداخلت علوم مثل العلاقات الدولية والتى شهدت «عودة المقدس إلى مسرحها» بحسب برتران بادي، كذلك قضايا التحول الديمقراطي.. إلخ. ويترتب على ذلك السبب الثاني، وهو ضعف فهم الخرائط المعرفية دائمة التجدد؛ ففى الدنيا الجديدة المتقدمة تكون العلوم فى حالة حيوية ومتجددة. ونقصد بالخرائط المعرفية، مدى القدرة على رسم مسيرة المدارس العلمية المختلفة وموجاتها المتعاقبة، ورموزها المؤثرين/المبدعين، كذلك مسيرة المصطلحات وتطورها وتوظيفها فى أكثر من حقل معرفي. فهل يمكن أن نتحدث عن الحداثة ونحن لم نترجم مؤلفات أنتونى جيدنز المعتبرة فى هذا المقام ( ترجمنا كتابيه الأقرب إلى حقل السياسة: الطريق الثالث، وبعيدا عن اليمين واليسار)، أو نتحدث عن الطبقة الوسطى ونحن لم نترجم المراجعات التى تمت فى هذا الشأن مؤخرا(هيلموت لانجولار سميير، وديريك واين)، أو أن نتحدث عن مصطلحات مثل الدولة الحديثة ( كتابات بييرسون، وموريس، ومارينيتو..) ونحن لا نعرف جديدها. إن أهمية ما نقول تكمن أن هناك كثيرا من الإشكاليات فى واقعنا سوف نجد لها مقاربات فى هذه الكتابات خاصة أن بعضها تناول واقعنا. ونتيجة للسببين السابقين نرصد السبب الثالث، وهو ما يمكن أن نطلق عليه محنة البحث العلمي، حيث كثير من البحوث تفتقد جديد المعرفة، إما بسبب عدم إلمام الباحث باللغات الأجنبية من جهة، وعدم ترجمة المؤلفات الحديثة المعتبرة فى غالبية الحقول المعرفية، ومن ثم عدم تمكن الباحث من الاطلاع على جديد المعرفة فى موضوع بحثه، والاكتفاء بما هو متاح، وهنا الطامة الكبري، حيث نجد الباحث يذكر فى قائمة المصادر مراجع تعود للخمسينيات، تم تجاوزها بكثير...الأكثر خطورة أن يتعرض الباحث لموضوع دون أن يعود لأحد أهم مصدر فى هذا الشأن. فهل يستقيم ان نتحدث عن المواطنة مثلا دون أن نستعيد «ت.ه. مارشال»، أو مسيرة من اجتهدوا فى هذا المقام مثل: تيرنر، وكيميليكا، أخذا فى الاعتبار أن هذه الاجتهادات قد يكون لديها ردود أو على الأقل شحذ الذهن وتحديه فى إيجاد اجتهادات ذاتية من خلال الاشتباك المعرفى معها. وأذكر كيف أن هناك من تصدى للمواطنة يوما معتمدا على مصادر تتعلق بأدبيات كلاسيكية حول الديمقراطية، مترجمة منذ القديم، دون أن يقترب من أدبيات المواطنة. وهو ما يعكس عدم إدراك أن هناك أدبيات متخصصة فى هذا الموضوع. كما أنه وبسبب التطور المطرد تكاثرت المصطلحات وتعددت الأدبيات. وفى هذا السياق لابد من الإشارة إلى فوضى استخدام الانترنت كمصدر للبحث العلمي، خاصة أن هم الباحث هو أن تكون هناك عناوين أجنبية فى المصادر يستسهل الباحث فى تسكين مراجع ليس لها علاقة بالبحث، أو باللجوء بكثافة إلى مصادر من مواقع يشك المرء كثيرا فى جديتها ودقتها وتكون النتيجة ذكر كثرة من العناوين بلا ضابط علمى ومعرفى عن مدى دقة هذا المصدر وأهليته. بناء مصر الجديدة يحتاج إلى مشروع معرفي، نقطة الانطلاق فيه: الترجمة؛ لسد الفجوة المعرفية، وإدراك الخرائط المعرفية المتجددة وابداع بحوث مبتكرة. كما فعل جدنا العظيم الطهطاوى. لمزيد من مقالات سمير مرقس