يبدو أن الثورة الليبية وهى تنهى عامها الثالث فى مفترق حقيقى ، فالشعارات الثورية التى رفعتها القوى التى ناضلت من أن أجل اسقاط نظام القذافى لم تتحول إلى برامج عمل ، ولم تجد الثورة طريقها إلى بناء الدولة . وعلى الرغم من نجاح الثورة الليبية فى إسقاط رأس النظام، فإن مفردات المشهد السياسى مع حلول الذكرى الثالثة للثورة تبدو وكأن ميراث القذافى مازال يلقى بظلاله على ديناميات التفاعلات السياسية، فخبرة الثلاث سنوات كشفت بجلاء عن أن أزمة الدولة الليبية وجدت ضعفها فى البناء السياسى الليبى الذى اتسم بخصائص الاقصاء والتفتيت، وتغييب قيمة العدالة الاجتماعية فضلاً عن غياب الركائز الأساسية لممارسة المواطنة والحريات الأساسية. ولاشك أن كل هذه الحقائق كانت لها تداعياتها الواضحة على فترة الحكم الانتقالى سواء خلال فترة المجلس الانتقالى أو خلال فترة المؤتمر الوطني، حيث جاء الأخير بعد إجراء انتخابات تنافسيه لأول مرة فى ليبيا لاختيار أعضائه فى السابع من يوليو 2012 افضت إلى تشكيل برلمان انتقالى يمثل مختلف التيارات السياسية الليبية. ومع اختيار حكومة على زيدان تزايدت الانتقادات لادائها وعدم قدرتها على بسط النظام العام فى ظل تنوع التحديات الداخلية والخارجية.وهو ما يثير العديد من التساؤلات حول طبيعة التحديات التى تواجه الثورة الليبية وهى تبدأ عامها الرابع ومدى قدرتها على أن تحدد طريقها وتحول مسارها الثورى إلى مسار سياسى يبنى الدولة ويعيد صياغة العلاقات بين قوى المجتمع الليبى على أسس أكثر انسجاماً وتعايشاً. ويمكن إجمال التحديات فى بعدين أساسيين : الأول: يرتبط بتعثر المسار السياسى ، حيث تواجه الثورة الليبية وهى تكمل عامها الثالث عدم قدرة شركاء الثورة فى حسم الانتقال من الحالة الثورية إلى بناء مؤسسات الدولة؛ فالإعلان الدستورى والمكون من 37 مادة والصادر فى 8 أغسطس2011 وضع مجموعة من الاستحقاقات الأساسية لم تترجم حتى الآن بشكل عملى خاصة فى وضع دستور يضع اللبنات الأساسية لمؤسسات الدولة ويحدد شكل النظام السياسى وأدوار المؤسسات، برغم الاعلان أخيراً عن بدء انتخاب أعضاء اللجنة التأسيسية المنوط بها وضع هذا الدستور فى ظل اعتراض بعض القوى السياسية والثورية على قضية التمثيل داخل اللجنة. وهو ربما يؤدى إلى عدم قدرة النظام الانتقالى الحالى على حسم مسألة تشكيل اللجنة دون توافق وطنى حقيقى على أعضائها وخلفياتهم . يضاف إلى ذلك أن ثمة اتجاهات متباينة حول استمرار عمل المؤتمر الوطنى نفسه تتراوح ما بين الدعوة إلى تمديد عمله أو التسريع بإجراء انتخابات رئاسية أو برلمانية. وهى كل قضايا لم تحسم بشكل واضح وأدت إلى ارتباك المسار السياسى وتعثره. أما التحدى الثانى وهو الأصعب يرتبط بتنامى الدعوات الفيدرالية والتى ربما تكون بداية لانفصال الأقاليم الثلاثة الرئيسية (برقة فى الشرق، وفزان فى الجنوب، وطرابلس فى الغرب) فى ظل تباين واختلاف درجة التطور الاقتصادى والثقافي، فطرابلس قريبة من أوروبا وأكثر انفتاحاً على ثقافة وقيم الغرب، وبرقة فى الشرق حيث الارتباطات بالموروثات العربية وتقاليدها ويتركز فى أراضيها معظم انتاج ليبيا من النفط . يبدو أن المنادين بالفيدرالية يجدون فى الواقع الليبى عوامل مساعدة لتحقيق هذا الهدف ومنها امتلاك قطاع كبير من الشعب الليبى للسلاح منذ اندلاع الثورة، وتحول بعض الميليشيات إلى مواجهة الدولة ومحاولة بسط سيطرتها على مناطق بعينها، فضلاً عن تجذر البعد القبلى فى الصراع على مناطق النفوذ فى ظل دولة مترامية الأطراف. الأمر الذى يحتاج إلى تضافر الجهود المجتمعية لوقف مثل هذه الدعاوى التى ستكرس للانقسام وبالتبعية ستكرس لانفصال هذه الأقاليم، كما حدث فى خبرات عربية أخري، لاسيما وأن بعض دعاة الفيدرالية فى ليبيا بدأوا فى تنفيذ مخططاتهم بوتيرة سريعة، ففى 6 مارس 2012 عقد اجتماع باسم مؤتمر شعب برقة، تم فيه الإعلان عن قيام كيان برقة ومؤسسات إقليم برقة، كالقوة المسلحة، وتشكيل هيئة تأسيسية لوضع دستور للإقليم، كما أعلنت مجموعة من أعيان المنطقة الجنوبية فى السابع والعشرين من سبتمبر 2012 منطقة فزان إقليماً فيدرالياً، وتم تشكيل المجلس الاجتماعى الأعلى لقبائل فزان فى ملتقى عقد فى مدينة أوبارى الجنوبية، حيث انتخب أعضاء المجلس رئيساً لإقليم فزان. الثورة الليبية وهى تبدأ عامها الرابع أضحت فى مفترق طرق ما بين دعاوى الانفصال أو الوحدة، إلا أن فرص انتقال الثورة إلى بناء الدولة والحفاظ على وحدة ليبيا مازالت قائمة بشرط أن تنجح القوى المؤثرة فى المشهد الليبى فى وضع دستور يضع مرتكزات أساسية لنظام سياسى ديمقراطى يحقق العدالة الاجتماعية ويعزز من التنمية المتوازنة بين مختلف الأقاليم، ويدعم الاندماج الوطنى ويعيد بناء المؤسسات الأمنية كالجيش والشرطة على أسس مهنية لصالح الشعب لا لصالح نظام بعينه.