لاشك أن مصر الآن تمر بمرحلة بناء حياة سياسية جديدة تؤسس لمناخ ديمقراطى منتظر ومتوقع، ستخدمه بلا جدال مناخات اجتماعية وواقعية مستجدة، خاصة أن المصريين قد عايشوا بحق مرحلة سياسية ثورية (حداثية) لم يتوقعوها من قبل بل ولم يحلموا بها على وجه من وجوه اليقين، حتى جاءت ثورة 25يناير 2011 وما تلاها من حركات المد الثوري، لتلقى بظلالها على طبيعة الحركات السياسية فى مصر ممثلة على سبيل المثال فى الحراك السياسى على مستوى القاعدة الشعبية بكامل طوائفها وطبقاتها، وفى بزوغ نجم الأحزاب السياسية الجديدة، بغض النظر عن طبيعة دورها الحالي، وعن مدى قدرتها على الاستقطاب أو التأثير فى موجات التوجه الشعبي، وفى وجودها الحقيقى فى الشارع المصرى من عدمه. ولا خلاف على كون هذا الحراك السياسى وما سيترتب عليه من حراك مجتمعى لن تكتمل بوادره ولا نتائجه إلا بإرساء منظومة ثقافية تتفاعل مع طبيعة المعنى السياسى وبديهياته المجتمعية، ومنها فكرة رسم مشروع ثقافى مصرى للفترة الراهنة، وما بعدها تعتمد على استراتيجية الوعي، والنظرة بفكر مدروس ومنظم إلى المستقبل القريب والبعيد لهذه الأمة العريقة، الأمة المصرية التى خلقت مفهوم الثقافة وأوجدت معناه. ولا خلاف أن موجة الحركة الثقافية والادبية قد تجمدت إلى حد كبير فى ظلال السنوات الثلاث الماضية، منذ نشوب الثورة بدافع من تأثير موجات العنف والصراع وسفك الدماء، والاقتتال على السلطة الزائلة، واختلال الرؤية العامة والبوصلة السياسية للبلاد، وسوء اختيار القيادات، وتهميش الدور الثقافى والفني.. إلخ، والتى كانت أشبه بمرحلة (الشرانق المختنقة) والتى عايش فيها المثقفون والأدباء والمبدعون المصريون أصعب وأضيق مرحلة فى تاريخهم، عادت بهم إلى الوراء عشرات السنين. والتكوين للمرحلة الجديدة يدفعنا إلى طرح هذا السؤال : ماذا نريد من الثقافة لنخدم وطننا الكبير، ولنبنيه من جديد، خاصة بعدما تبين لنا أن الازمة الحقيقية فى تجربة الحكم السابقة.. هى أزمة ثقافة أو أزمة ثقافية من الطراز الأول، هى التى جعلتنا أمام مؤسسات ثقافية مترهلة، غابت عنها بوصلة الواقع والمستقبل، ومحاور الاهداف، ولذلك وجدنا تراجعا فى كل شيء، ولا نريد أن نقف كثيرا أمام أزمات المؤسسات الثقافية فى السنوات الأخيرة، ومنابر النشر، وتراجع أدوار المؤسسات الثقافية والدينية والجامعية العملاقة. إننا إذا أردنا أن نتقدم إلى الأمام فى مسألة المشروع الثقافى علينا أن نخطو الخطوات التى خطها منذ نحو نصف قرن مؤسس مدرسة الثقافة المصرية المعاصرة الاستاذ ثروت عكاشة، الذى حاول أن يطرح هذا السؤال.. ماذا نريد من الثقافة لنبنى وطنا متميزا له شخصيته الفكرية والثقافية فى محيطه الاقليمى والدولي، خاصة أننا فى نطاق بلد خلاق، تمثل الحركة الثقافية فيه والإبداعية سياساته الناعمة على كافة المستويات، وهناك مئات الأسماء يعيشون بيننا، ويقدمون فنا لا يقل عن فنون العمالقة الكبار فى مطلع القرن العشرين، ولكنهم فى حاجة لمن يكتشفهم وينقب عن ابداعاتهم مثلما فعل ثروت عكاشة وفريقه، فقدم إلينا نتاجات الوجوه الجديدة فى زمانه أمثال صلاح عبد الصبور ويحيى حقى وعبد الرحمن الشرقاوى وأمل دنقل وأحمد عبد المعطى حجازى ونازك الملائكة ومحمود حسن إسماعيل وعلى محمود طه وغيرهم العشرات من المبدعين. إذن فالخطوة الأولى هى خطوة للنشر العاصر تتبناها وزارة الثقافة وفروعها كالهيئة العامة لقصور الثقافة ومكتبة الاسرة وهيئة الكتاب للمبدعين والمفكرين الجدد، ولأصحاب الرؤى النقدية والفكرية والفلسفية المعاصرة، لجميع المدارس الموجودة على الساحة، وظنى أن المواهب فى مصر بالمئات، ولكنها فى حاجة لمن يعيد اكتشافها من جديد ولا نريد أن نقف عند هذا الحد ولكننا نتحدث كذلك عن النطاقات الابداعية الأخرى فى مجال الدراما والمسرح والكتابة للسينما وللتليفزيون بعد رحيل كوكبة من كتاب الدراما الكبار أمثال أسامة أنور عكاشة ومحمد صفاء عامر وغيرهما من أبناء الدراما التليفزيونية والسينمائية. ومثل هذه المواهب التى نبحث عنها، ونريد نشر نتاجها على نطاق واسع كان بالإمكان أن يكون لهم وجود حى حقيقى بيننا لو كانت قصور الثقافة فى بلادنا وما أكثرها تعمل بحث، وتنقب عن هذه الوجوه المبدعة، وتقدمها فى ندواتها وبرامجها، وتفسح لها المجال لتنتشر، وترى الوجود، ويعرفها الجمهور الثقافي، ولكن للأسف سقطت قصورنا الثقافية فى أزمة الأداء الروتينى والتقليدى والوظيفى التى ترتبط بطبيعة الوظيفة أكثر من ارتباطها بفكر الإبداع والعمل الأدبي. ونأتى للخطوة الثانية فى مشروعنا المستقبلى القومي، وهى خطوة تربط فكر الماضى التراثى المتميز بأنماط الاتجاهات الفكرية المعاصرة، فتراثنا القديم بجواهره الإبداعية فى حاجة لقراءة جديدة من منظور الفكر والنقد المعاصر ومدارس الحداثة وما بعدها، فإبداعات العشرات من القدامى فى حاجة اولا لطباعتها من جديد بعدما توقفت سلاسل (الذخائر) وسلاسل النشر التراثى بقصورنا الثقافية وهيئة الكتاب، ثانيا : معظم الإبداعات القديمة، خاصة من زمن عبد الحميد الكاتب وابن المقفع والجاحظ وأبو العلاء المعرى وعبد القاهر الجرجانى والقاضى الفاضل وابن الفارض وابن خلدون وابن رشد وابن حزم فى حاجة لإعادة نشرها للأجيال الجديدة التى لا تعرفها تماما، إلا من رحم ربي، كما انها فى حاجة لاعادة اكتشافها من جديد من زاويتى الفكر والفن، والتقديم والتفسير لها، لا لشيء سوى لأن هذه الأجيال هى التى قدمت المفهوم الحقيقى للحداثة الأدبية التى نعايشها الآن فى كثير من أنماط الفكر المعاصر، ومن يعود إلى رسائل أبى العلاء المعرى فى الشعر والنثر، والتى نقلها الغرب عنه، ورسائل ابن رشد الفلسفية التى حاكاها فلاسفة العصر الحديث، واتخذوها منهجا لعرض قضايا الفكر المعاصر، ورسالة ابن خلدون فى التربية، التى جعلت الغرب ينظر إليه باعتباره مؤسس علم الاجتماع المعاصر، ونتاج ابن الفارض الصوفى الفلسفي، ورسائل ومؤلفات الجاحظ الذى سبق زمنه فى مناقشة معظم قضايا فترته.وغيرهم العشرات والعشرات هذا إلى جانب الفترة المنسية من تاريخ مصر الادبي، وأقصد بها فترة الخلافة (الفاطمية ومن بعدها الأيوبية ومن ثم المملوكية) والتى قدمت عشرات الاسماء لأجيال منسية من المبدعين المصريين القدامى والوافدين على مصر، الذين أسهموا بطريقة أو بأخرى فى تقديم الفن المصرى الخالص بكامل خصائصه الفنية وبطبيعته المصرية الساخرة، ونجدها فى إبداعات ابن سناء الملك وبهاء الدين زهير والشاب الظريف وظافر الحداد وابن قلاقس الإسكندرى والبوصيرى وابن مطروح وابن هانئ وابن الجزار وغيرهم العشرات ووصولا إلى مؤلفات المقريزى والرافعى والطهطاوى والمويلحي. إننا فى أمس الحاجة إلى قراءة تراثنا الغنى من زاوية نقدية معاصرة، وتقديمها فى سلسلة من سلاسل النشر القومية أو التابعة لوزارة الثقافة، مع تحليل لها وتفسير لفنونها، حتى نربط الأجيال الجديدة بتراثها التنويرى المنسى عن قصد أو عن غير قصد. لمزيد من مقالات د.بهاء حسب الله