تواجه الدبلوماسية الوطنية في الظروف الراهنة أنواعا من المهام والتحديات الصعبة التي تختلف في النوع والدرجة عما كانت تواجهه تقليديا في مراحل طويلة سابقة، فقد اختلفت أسباب الحروب وأدوات الصراع وأنواع الأسلحة، واستجدت مفاهيم ومداخل أخري لتسوية النزاعات وبناء السلام، كما تغيرت وظائف وأدوار العديد من المنظمات الدولية والاقليمية، وصارت قضايا الأفراد والجماعات العرقية والدينية ومكافحة التطرف والإرهاب في كل مكان تشكل أبرز الأولويات في أجندة المجتمع الدولي، وراحت منظمات المجتمع المدني وقوي الاحتكار والضغط الاقتصادي وتكنولوجيا الاعلام المتطورة ومراكز حقوق الانسان تلعب أدوارا لا تقل أهمية وخطورة عن أدوار الحكومات والجيوش. ولم يعد للأجهزة الدبلوماسية ترف التشدق بالبيانات الرنانة علي منصات المنظمات الدولية، أو كتابة مذكرات احتجاج أو اللجوء الي وسائل انفعالية كقطع العلاقات وطرد السفراء، ولا ترف اختيار الصمت أو التجاهل أو المقاطعة لما تحمله الدوائر الخارجية من ضغوط وانتقادات وتلويح بقطع المعونات أو بالتدخل لأغراض انسانية. ولعل أخطر ما تواجهه دبلوماسيتنا الوطنية في الظروف الراهنة رغم انشطتها وتحركاتها المكثفة وجود قدر من الانقطاع بين آدائنا الوطني في الداخل اقتصاديا وسياسيا واعلاميا وتلك التحركات الدبلوماسية النشطة في الخارج مما يحد من فاعلية هذا النشاط ومما يثير تساؤلات وشكوكا حول مدي استمرارية أو تراجع الوزن السياسي لمصر اقليميا وعالميا. ومن ناحية أخري، ورغم المحاولات الجادة والمتميزة التي تقوم بها وزارة الخارجية للرد علي حملات الهجوم الإعلامي وتفنيد المغالطات والتشويهات الصادرة عن دوائر خارجية إلا أن الأمر لايزال مرهونا بما تتخذه المؤسسات الأخري في الدولة من سياسات وبرامج، وما توفره من بيانات مدققة وشروح واضحة يمكن أن تساعد أجهزة الإعلام الوطنية وجهاز الإعلام الدبلوماسي بالذات في تبني وتقديم القضايا المصرية بطرق أكثر اقناعا والدفاع عنها بكل الأدوات والوسائل الممكنة، وقد يحتاج الأمر قبل ذلك وبعده الي بعض الجهد لتقريب المسافة بين المستويات المحلية وتلك المتعارف عليها عالميا فيما يتعلق بمعايير التدقيق والجودة والشفافية والاتساق في المعلومات والاحصاءات، وفيما يتعلق أيضا بترتيب الأولويات في الحقوق والواجبات، وفي تحديد العلاقة بين اعتبارات الأمن القومي واعتبارات حقوق الأفراد والجماعات. ولا شك أن أبسط الحقائق المعروفة للجميع تقول إن الوزن الاستراتيجي والسياسي للدولة وفاعلية تأثيرها في المحيط الخارجي يرتهنان بقوة اقتصادها وقوة جيشها وباستقرار نظامها السياسي وتكامل مؤسساتها الدستورية، ووحدة شعبها، وبمدي ما تملكه من آليات الإدارة الحديثة وعدالة وكفاءة نظم التوزيع والأمن والقضاء، وكفالة الحريات في اطار من المسئولية واحترام القانون. وإذا كانت ظروف التغيير الثوري والحراك الشعبي المستمر منذ يناير 2011 قد أدت الي حدوث قدر غير هين من التعطل لبعض هذه العناصر، وقدر آخر من التغيير في بعض الانساق القيمية السائدة شعبيا، وفي السلوك السياسي والاجتماعي للأفراد والجماعات مما لا يستطيع أي جهاز دبلوماسي أن يلاحقه أو يؤثر فيه مباشرة بحكم طبيعة وظيفته ودائرة عمله، فقد يكون مطلوبا خاصة في ظل هذه الظروف اتاحة قدر أكبر للرؤي والتقديرات والخبرات التي يحملها الدبلوماسيون الوطنيون في عملة رسم ا لسياسات العامة واتخاذ القرارات الوطنية، بما يسهم في اعفاء الإدارة الانتقالية الراهنة في مصر من حرج الوقوع في تناقضات ذاتية أو مخالفات لالتزامات مصر القانونية، وبما يسهم في مواجهة الضغوط وحملات التشويه الخارجية لمصر وثورتها ويساعد في تعزيز وتشجيع الدعم الخارجي وتوفير ما يلزم له من قواعد الشفافية وضمانات حسن التوظيف. وليتأكد الجميع في الداخل والخارج أن جهازنا الدبلوماسي العريق كان وسيظل من قبل ومن بعد في طليعة قوي التغيير الوطني والتنوير الرشيد، وأن أبناءه الذين قدموا من بينهم شهداء وتضحيات في الخارج والداخل من أجل رفعة البلاد وتحقيق مصالحها لايزال لديهم الكثير من العطاءات التي يقدمونها في خدمة هذا الوطن وتطلعاته المشروعة نحو التنمية والتحرر واستقلالية القرار الوطني والمساهمة في بناء جسور التفاهم والتواصل بين مصر وسائر الشعوب والأمم. لمزيد من مقالات هانى خلاف