فى عمارة قديمة بمنتصف شارع التحرير، شبَّاك ضيِّقٌ مفتوح على مصراعيه الأخضريْن بالطابق الرابع. فى الشبَّاك شابة واقفة وعلى ذراعيها نُسخة مصغرة منها، رضيعة فى عامها الأول، الأم والرضيعة جميلتان، صغيرتا الحجم كعصفورتيْن، تتطلعان للمارة على أرصفة الشارع والسيارات القليلة المسرعة، تنظران بنفس لون العيون والبريق: عيون عسليَّة واسعة، وبريق مُنير. الرضيعة على صدر الأم، يضم جسدها الصغير جاكت برتقالى بزعبوط يتدلَّى للخلف كاشفًا عن شعرٍ أسود كثيف يتطاير مع نسمات الهواء، الرضيعة نشيطة فى هذا البرد، تناغى أمها، وتداعب بأصابعها الرقيقة شفتى أمها، ومن عينيها يتقافز ذكاء حاد وشقاوة مبكرة، والأم تحدق فى الشارع ذاهلة عن رضيعتها، ومترقبة.. «ما الذى سيحدث يا رب؟!». وجه الأم أسمر سمرة رائقة، ومُشرب بحمرة وردية، على عينيها نظارة طبية، شعرها الأسود الطويل مُضَفَّر فى ضفيرتين طويلتين تنسدلان على كتفيها تحت إشارب أخضر، الأم الصغيرة خرجتْ للشباك على عجل، فى فستان بيتى مشجر، والرضيعة على يدها تداعب بأصابعها الرقيقة مفرق صدر أمها، تفلفص من مسكتها وتهز ظهرها للخلف وتضحك بكركرة، ثم تهدأ قليلًا وتحدق فى الشارع، كأمها الصامتة. بعد لحظات تعود الرضيعة لضرب صدر أمها، تشد برفق طوق فستانها، وتنحنى نحو صدرها كأنها تَهُمُّ بالرضاعة، ثم تعود بجسدها الضئيل للخلف وتقهقه ضاحكة ضحكة عذبة وطويلة. الأم لا تستجيب لمداعبة رضيعتها المعهودة، ولا تشعر بملمس أنامل وحيدتها على صدرها، لا تنظر للبنت، ويبدو أنها حتى لا تسمع ضحكها، الأم ساهمة، ساكنة كتمثال، تخلع نظارتها، تمسح عدستيها بطرف كُمّها، تحملق فى الشارع مشدوهة العينين، وتعود فتضبط نظارتها وتحدق فى المشهد المباغت الذى يتكون بالشارع لحظة بعد أخرى، وعلى وجهها صدمة الدهشة، والشك فيما ترى وتسمع. فوق رأس الأم بدأتْ تُحَوِّم أصوات هادرة: وقع أقدام مئات الآلاف على الأسفلت،هتافات مدوِّية، كأنها تأتى من السماء قبل الأرض، ونداءات صارخة. للمرة الأولى فى حياتها تخرق أذنيها كلماتٌ وهتافات مبتكرة جديدة، تسمعها كمن ينصت للغة لا يعرفها، وأمام عينيها يتشكل مشهد فريد لم تكن تحلم بأن تراه من قبل، ربما كانت تحسب أنها ستصير عجوزًا خرفة، وستموت قبل أن ترى هذا الذى تراه الآن أمام عينيها حقيقة لا خيالًا. من اتجاه ميدان الدقى يتعالى وقع أقدام مئات الآلاف على أسفلت الشارع فى طريقها لميدان الجلاء، تميل الأم وتدير وجهها لترى بشكل أوضح، فى مقدمة الناس شباب يسيرون، ظهورهم لها ووجوههم فى اتجاه الحشود، يهتفون بأعلى ما فى حناجرهم من صوت. فى المسيرة الحاشدة رجال وكهول ونساء، وأطفال مرفوعون على أكتاف الآباء، آلاف الأعلام فى الأيادي، آلاف اللافتات الورق والقماش، نهر الشارع بحر بشر يفيض عن الجانبين، ومدى بصر الأم من شباكها بالطابق الرابع لا يحيط بآخر المسيرة، نهر الناس يتقدم فى اتجاهها، يقترب منها بإصرار وثقة. الأم تحدّقُ فى الناس مصدومة، والرضيعة على ذراعها سئمت انشغال أمها عنها وعدم استجابتها لمناغاتها المتكررة، فأدارت رقبتها وراحت تنظر فى اتجاه نظر أمها، راحت تنظر للمسيرة وللأطفال المرفوعين على أكتاف آبائهم. الأم تخال نفسها نائمة تحلم، أو فى حلم يقظة، ونهر الناس فيضان عظيم يقترب منها ويُغْرِقُ عينيها اللتين لا تفلتان المنظر المهيب. رأتْ فى الحشود شابات وكهلات وعجائز، رأتهن يرتدين كل الألوان، الأبيض والأسود والأحمر والأخضر، كل الألوان، رأتهن يُلوِّحْنَ بالأعلام، يَجْأَرْنَ بالهتاف وبالصراخ، وبالأيادى المفتوحة والقبضات التى تشق الهواء، يمشين ويهرولن بين الناس كأنهن رجال، تعلو وجوههن غضبة كبرى، حنق، إصرار وغليان، والأم الصغيرة متسمرة فى النافذة تنظر إليهن بحسرة، بغيرة، بحنق على نفسها. والرضيعة اليائسة من استجابة أمها تشد طوق فستانها وتعبث بصدرها، تضربها بكل كفها الصغير، بدأتْ تبكى، والأم لا تسمع سوى زئير الناس فى الشارع، ولا ترى سوى أروع مشاهد عمرها، حلمها القديم يتجسد أمام عينيها الآن، لا تريد أن تفلت أية لمحة منه أو صورة. تحت شُبَّاكِها وصلتْ طليعة المسيرة، وارتفعتْ وجوه وأيدٍ، وأفواه تنادى مَنْ فى النوافذ والبلكونات والبيوت: «يا أهالينا انضموا لينا». «يا حبايبنا تعالوا معانا». لمعتْ عيناها وترقرقتْ فيها دموع حبيسة. هى يتيمة، ولا أهل لها بالقاهرة، وحيدة بالشقة الصغيرة، وزوجها فى سفر. «هل كل هؤلاء أهلى؟! لو كنتُ أستطيع أن أنزل لهم لنزلت، كيف أسير بالبنت وسط كل هذا الزحام، البنت ستجوع، ستبرد، ستريد أن أغير لها الحفاضات، ربما يصيبها مكروه، أبوها يموت فيها، البنت تموت منى فى الزحام، البنت، البنت، يا رب!». فوق رأسها يرتفع النداء جميلًا وقويًّا كأذان يدعو للصلاة: «يا أهالينا انضموا إلينا». «هل انتظرتُ هذا اليوم؟ ربما، لا أعرف، أنا فقيرة، فى حالى، كافحت حتى تخرجت فى كلية الآداب، كنت متفوقة، عرفت الجوع والقهر وضيق ذات اليد، والسخط والحنق على كل شىء». «يا أهالينا انضموا لينا». «أنا من هؤلاء الناس الذين استيقظوا أخيرًا وثاروا فى وجه القهر والاستبداد، هؤلاء أهلى وناسى، أنا منهم ومعهم، فى هذا الحشد لا بد أن يكون زميلاتى وزملائى فى الجامعة، ناس من أهلى وعائلة زوجى، جيران وأصدقاء .. آه .. لا بد.. لو نزلت الشارع بالبنت؟ البنت ستريد أن ترضع .. يا رب! ماذا سيفعلون بهم؟ هؤلاء كل أهل مصر، هل سيقتلون كل الناس؟! الرضيعة على صدرها ملتصقة بها كقطعة منها، صدرها على صدر أمها كأنها تتنفس برئتى أمها، رأسها على كتفيها، ويدا أمها تعرفان موضعهما على ظهر البنت. الأم ما زالت غارقة فى أفكارها، غائبة، تحملق فى مئات آلاف الناس. «هل سيستطيعون أن يصلوا لميدان الجلاء ويعبروا كوبرى قصر النيل ويصلوا لميدان التحرير؟ ماذا سيفعلون هناك؟ ثم ماذا سيكون؟ يا رب استر! انصر شعبك». عيناها على الناس، ورأسها تتلاحق فيه الأسئلة والأفكار، كانت غائبة حاضرة، سَحَرَها المشهد العظيم الخلاب. من ناحية ميدان الجلاء بدأ الهجوم، بدأ إطلاق القنابل المسيلة للدموع والخرطوش، بدأت المعركة والأم ما زالت ذاهلة لا تشم السم الزاحف فى الهواء، لا ترى ارتفاع الدخان من هنا وهناك، لا تنتبه للرضيعة على صدرها، فقط تحدق فى الناس، فى اندفاعهم للأمام، وجريهم، وإصرارهم على العبور. من هناك، من بعيد، انطلقت رصاصات غدر وخيانة، ضلت طريقها أو أصابت هدفها، لا يهم، المهم أنها أثارت الذعر والخوف فى نفوس كثيرين، سقط البعض جرحى يخضبون الأسفلت بدمائهم، سقط قتلى هنا وهناك، وسحابة الدخان صارت خانقة، ولكن قلب المسيرة لم يتوقف أو يتراجع، المسيرة تشق طريقها برغم كل شىء نحو كوبرى الجلاء، غير عابئة بالرصاص والغاز والموت الذى يصطاد الأرواح بإصرار وإجرام. وفى الشباك الأم والرضيعة على صدرها، الأم ما زالت ذاهلة تحدق فى المشهد العظيم، فى شبان لا يتراجعون للخلف خطوة، بصدور عارية وبالكلمات يواجهون الرصاص، تحدقُ فى نساء يرتفع صراخهن لعنان السماء، وعجائز يرفعون أياديهم الضعيفة للسماء هاتفين بحناجر مُسِنَّة: «يا رب .. يا رب!». والرضيعة..الرضيعة على صدرها أصابتها رصاصة غادرة. كانت الأم تحدق في المشهد العظيم باسمة كأنها فى حلم سعيد، والرضيعة على صدرها ما زالت حية، تتنفس رغم همود حركتها، رغم سكونها، وانتظار المجهول.