بمناسبة قرب انتهاء العام الأول علي ثورة الخامس والعشرين من يناير عام2011, تحتشد جميع الأطراف السياسية للتنافس علي الاحتفاء والاحتفال بهذه المناسبة, وأعلنت كل من هذه الأطراف والقوي السياسية طريقتها وخطتها في هذه المناسبة. بيد أن هذا التنافس علي الاحتفاء بهذه الذكري والطرق والخطط, التي أعدت لاستقبالها, تنطلق من رؤي مختلفة ومتباينة بل ومتعارضة في المضمون والمعني والدلالة, ولايبرأ أي من هذه الرؤي من تقييم للثورة سلبا أو إيجابا ومن انحيازات لها أو عليها. ذلك أن بعض هذه الأطراف تقوم بالتعبئة والحشد للاحتفال بمناسبة ذكري مرور عام علي الثورة, وخطابها يؤكد أو يتمني نهاية الثورة بانتهاء العام الأول علي اندلاعها, وينوي الاحتفال بهذه المناسبة وكأن الثورة أصبحت مجرد ذكري, أو أنها بصدد النزع الأخير, قبل أن تلفظ أنفاسها, أما بعض هذه القوي السياسية الأخري فتعقد العزم علي الاحتفاء بالثورة في عامها الأول, ولسان حالها يقول ان الثورة قد أدت مهمتها علي النحو المطلوب منها, أي أنها فتحت الباب لإجراء انتخابات نزيهة, ودفعت بهذه الأطراف الي صدارة المشهد السياسي وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان أو ما هو كائن. هذا في حين أن قوي الثورة الحقيقية من ائتلافات الشباب والثوار والحركات السياسية الثورية الذين فجروا الثورة, وسقط منهم الشهداء والمصابون, يرون أن الثورة لم تنته بعد, وأنها لم تستكمل أهدافها وان ما حققته حتي الآن ليس سوي النزر اليسير من أهداف الثورة, وأن الاحتفال بمناسبة مرور عام علي اندلاع الثورة لا يكون عبر تأبين الثورة أو توديعها لمثواها الأخير, بل في الإضرار علي استكمال تحقيق أهدافها واكتمال مسيرتها, خاصة مع تعثر اجراءات القصاص ومحاكمة قتلة الثوار, وتهميش قوي الثورة الحقيقية لمصلحة محترفي السياسة وبقاء النظام القديم بقاعدته الاقتصادية والاجتماعية علي ما هي عليه. وهكذا يضيف انتهاء العام الأول علي قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير عام2011 انقساما جديدا بين من يرون ضرورة انتهاء الثورة ووقوفها عند هذا الحد وأولئك الذين يرون أن الثورة مستمرة أو هكذا ينبغي حتي تحقيق أهدافها في العيش والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية, انقساما يضاف الي تلك الانقسامات التي تراكمت منذ الحادي عشر من فبراير عام2011 والاطاحة برأس النظام ثم رموزه الكبيرة فيما بعد, والتي أسهمت ضمن منظومة من العوامل في تعويق مسار الثورة بل ربما في تطويق الثورة واحتوائها وتجميد تأثيرها وفاعليتها, وتفكيك الاجماع والتوافق حول أهداف الثورة بسبب غلبة المصالح الإيديولوجية والسياسية والمادية علي ما عداها. ورغم هذا الانقسام والانقسامات التي سبقته وتلك التي قد تلحقهما فإنه في تقديري أن الثورة المصرية بقواها الحية من الشباب ومختلف الفئات الاجتماعية الأخري التي شاركت فيها سوف تتغلب في النهاية علي القوي المضادة للثورة المحلية والإقليمية والدولية, تلك القوي التي حاولت ولاتزال تطويع الثورة لقبول الأمر الواقع الجديد بواجهة مختلفة والحفاظ علي ذات السياسات المالية والاقتصادية والنيوليبرالية متزامنة مع خطاب جديد ليس بمقدوره اخفاء جوهرها ومحتواها وانحيازاتها الاجتماعية, تلك القوي التي حاولت ولاتزال سحب الثورة من الميادين والساحات والشوارع وقامت بالفصل بين المطالب الاجتماعية المختلفة وبين السياسة واستخدمت الترويع الاقتصادي والأمني وحملت الثورة والثوار تدهور الأداء الاقتصادي والانتاجي والميراث الثقيل الذي آل الي مصر من سوء وفساد النظام السابق. الثورة المصرية ستنتصر في نهاية المطاف لأنها انفردت دون غيرها من الثورات عبر التاريخ بخصائص وسمات تضمن لها الانتصار والاستمرار حتي تحقق أهدافها, فلم يحدث في تاريخ الثورات أن خرج هذا العدد من ملايين الناس في الميادين والساحات والشوارع من مختلف الفئات والأعمار علي مدي وقائع وأيام الثورة, خرجت هذه الأعداد الغفيرة في شكل سلمي متحضر أدهش العالم, واستلهمت هذه الملايين تلك التقاليد الحضارية العريقة في الثقافة المصرية وخاطبت في المصريين أنبل ما في أعماقهم من قيم ومعان. خرجت هذه الملايين من أعماق الوادي والدلتا من الشرق والغرب من المراكز الحضرية الكبري والصغري, خرجت وكأنها كانت علي موعد مع التاريخ والأقدار لتصنع تاريخا جديدا لمصر والمصريين وتذكر العالم بالعمق التاريخي والحضاري للمصريين. لقد تساوي في هذا الخروج الملاييني من المركز والمحيط, القلب والأطراف, التحرير وكل الميادين الأخري, العاصمة الكبري والعواصم الإقليمية, وكأن جغرافية مصر قد أنتجت كل عبقريتها في المكان والزمان دفعة واحدة. من ناحية أخري فإن ملايين الثورة المصرية قد التفت حول شعار واحد وهدف واحد هو مفتح تحقيق الأهداف الأخري ألا وهو اسقاط النظام الذي يبدو أنه قد يئس من وقوفه, وهو ما يعني ان الثورة المصرية قد توجهت مباشرة الي مجال المطالب السياسية العامة وليس المطالب الاجتماعية الخاصة بمختلف الفئات التي قهرها النظام السابق دون أن يعني ذلك الفصل بين هذين المجالين أو عدم ارتباط أحدهما بالآخر, بل يعني ذلك في المقام الأول أن ادراك ووعي المصريين قد قادهم الي أن تحقيق مطالبهم الاجتماعية في العيش والكرامة لن يتأتي إلا بإسقاط النظام الذي أسقط هذه المطالب من اعتباره وأن الاقتصار علي المطالب الاجتماعية في اطار بقاء النظام سوف يفضي الي تعثر تحقيق كل من هذه المطالب مجتمعة. يضاف الي ذلك ان فاعليات الثورة المصرية وأساليبها في التعبئة قد أوجدت في مصر حالة ثورية متجذرة, ما أن تعتقد بعض الأطراف ان جذوة الثورة قد خبأت وانطفأت, حتي تعاود الثورة الكرة مرة أخري عبر موجات متلاحقة أكثر اصرارا وعزما علي تحقيق أهدافها, بل ان مواجهة الثوار بالقتل والقنص والاستهداف البدني لم يفعل الا ان يدفع الثوار لاستمرار المطالبة بتحقيق أهداف الثورة ويزيد اقتناعهم بأن هذه الأهداف لم تتحقق بعد وقد لاتتحقق مادام بقي النظام القديم دون تغيير جذري. وأخيرا وليس آخرا فإن الثورة المصرية وربما من حسن الطالع لم يسيطر عليها أي تنظيم سياسي أو منظمة سياسية ذات طابع أيديولوجي, لا في بدايتها أو في أثناء فاعليتها, كما أنه لايملك وضع نهايتها أي حزب أو منظمة ايديولوجية, وهكذا فإن الثورة المصرية قد تحررت من الايديولوجية ولامست الواقع الحقيقي للمصريين بمختلف شرائحهم وفئاتهم الاجتماعية وأظهرت الي حيز الوجود ما يجمع بين المصريين جميعا, مسلمين ومسيحيين, بسطاء وفقراء ومتوسطي الحال, من طموحات وتطلعات. وكان ذلك يعني تحرر الثورة من قبضة قيادة أيديولوجية تحدد وتيرة الثورة وتفرض سقفا عليها وعلي الثوار, وقد تفرض عليها حلا وسطيا يحول دون الوصول الي غايات الثورة وأهدافها, كما أنه يعني أيضا فتح الباب أمام الثوار للاستفادة من خبرتهم المتراكمة ودراسة تحركاتهم وابتكار أشكال وأساليب جديدة للضغط والاحتجاج تحظي بالتوافق ونابعة من خبرة الثوار وخبرات الثورة, وهو الأمر الذي يضمن المشاركة والفاعلية علي نطاق واسع بعيدا عن هرمية وبيروقراطية التنظيم الايديولوجي. يضاف إلي ماسبق أن الثورة هي أول ثورة تنظف مكانها في التاريخ. ان هذه القسمات والخصائص التي انفردت ببعضها أو كلها الثورة المصرية وثورات الربيع العربي تجعل الثورة المصرية مستعصية علي الاحتواء والتطويق وتمنحها الزخم المتجدد الضروري لتحقيق أهدافها رغم ضراوة التحديات الداخلية والإقليمية والدولية التي واجهتها ولاتزال تواجهها, وهو الامر الذي يفرض علي الثورة والثوار ضرورة الجمع بين التنظيم والمؤسسية, وبين الحضور الجماهيري والتمسك بأهداف الثورة وعدم الانفصال عن الواقع وكسب تعاطف القطاعات الواسعة من الشعب ورفض الوقيعة بين الشعب ومؤسسات الدولة. المزيد من مقالات د. عبد العليم محمد