عندما استلهمت عبارة الروائي البريطاني المستقبلي ه.ج. ويلز وسوف يكون المستقبل صراعا بين الكارثة والأمل( الدار المصرية اللبنانية,2008) كنت افترض أن ما يحدث عندنا علي ساحة التعليم العربي يفضي إلي الكارثة لا الأمل. صدع الخطاب الرسمي رءوسنا طيلة عقدين بشعار التعليم قضية أمن قومي لمصر كان الشعار أقرب إلي الطبل الأجوف, لأننا لم نقرن الدعوة برفد حقيقي مادي للشعار يوفر له الامكانات التي تجسد هذا الشعار الطموح في أرض الواقع. تتجاوز نسبة مخصصات التعليم من الدخل القومي3%, وهو ما يحتاجه لتحقيقه إلي رفع النسبة إلي7% لتلبي هذا الطموح. التعليم لا يكون مشروعا قوميا لدولة, ولكنه يمثل رافعة هذا المشروع كما فعل محمد علي, ربط دوره بإعداد كوادر الجيش والأسطول من ناحية, و الصناعة الكبري من ناحية أخري. وكان التعليم دوما في قلب مشروعات النهضة الكبري من محمد علي إلي عبد الناصر مرورا بإسماعيل باشا, وتطلعات الاستقلال بعد معاهدة.1936 واحتل الهم التعليمي ثلثي حجم أهم كتاب مصري صدر في القرن العشرين من وجهة نظري وهو مستقبل الثقافة في مصر لطه حسين سنة1938, والذي يمثل مانيفستو النهضة قدمه أهم مثقفي التنوير في زمانه. قرن طه حسين التعليم بالثقافة كرافدين للنهضة, وهو كان صحيحا في عصره, وكأهم مكونين لرأس المال الثقافي, ولو امتد العمر بطه حسين لأضاف رافدا ثالثا وهو الإعلام, باعتبار التعليم والثقافة والإعلام مثلث بناء البشر, وبتعبير شيخنا حامد عمار في أي مجتمع. وإذا كان طه حسين قد أضاف مجانية التعليم الثانوي إلي حركة المجانية, فإن جمال عبد الناصر أكمل الحركة إلي أقصاها بإقراره مجانية التعليم العالي والدراسات العليا, ليتوج نضالات الحركة الوطنية من رفاعه الطهطاوي وعلي مبارك وعبد العزيز جاويش وغيرهم إلي جيل طه حسين.لقد تقلص الإنفاق علي التعليم في الدولة المباركية مقارنة بالدولة الناصرية والساداتية, ولم تمثل الزيادة الكمية في الإنفاق دلالة مهمة في خلخلة الوضع التعليمي في ظل تراجع نسبة الإنفاق علي التعليم سواء من الدخل القومي أو من الإنفاق الاجتماعي. سبق أن طالبت أمام محاضرة لأعضاء مجلس الشعب في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي أثناء مناقشة نظام الثانوية العامة وقتها بمد الإلزام في التعليم إلي المرحلة الثانوية كأحد الشروط المهمة لتكوين الكتلة الحرجة( متلازمة مع مضاعفة نسبة الإنفاق علي البحث العلمي لتصل من نصف في الواحد في المائة من الدخل القومي إلي2-3 بالمائة), أما عن الجسد التعليمي من داخله, فتعد الحرية والعدالة ركيزة المسيرة التعليمية في مصر, الحرية الأكاديمية وحرية المتعلم بشموليته من ميول واستعدادات وقدرات واختيار, إلي تحقيق العدالة التعليمية متمثلة في مبدأ تكافؤ الفرص التعليمية. وهما الركيزتان اللتان تم تفريغهما من مضمونهما طيلة حقبتي السادات ومبارك. صحيح أن السياسات الناصرية الشعبية بنزعتها التقدمية استجابت للطلب الاجتماعي الواسع علي التعليم, وتبنت سياسات تعليمية منحازة لحق الجماهير العريضة في التعليم, وباعتباره المصعد المضمون للحراك الاجتماعي في الدولة الناصرية إلا أن طرق وسائل تعليم الأعداد الكبيرة لم تتطور وظلت نفسها التي كانت تتعامل مع تعليم الأعداد الصغيرة, ولذا فإن الباردايم التعليمي الجديد يجب أن يتبني مثلث الحرية+ العدالة+ الإبداع ليضيف الإبداع الجماهيري بتعبير مراد وهبه إلي جسد التعليم ونهجه, طالقا قوي الإبداع والعقلية النقدية متكأة علي نظام قومي لرعاية الإبداع. بحيث ننتقل من مجتمع التعليم إلي مجتمع التعلم, وأن يكون الإبداع هو الروح الحقيقية لأضخم صناعة في مصر, وهي صناعة التعليم(17 مليون طالب,35 ألف مدرسة, ومليون وربع معلم), وأن نتعامل مع المتعلم ليس علي أنه دلو أو خزان يمتلئ بالمعارف, بل غاز في أنبوب يجب إشعاله, وهو ما يترجم كون التعليم المفترض هو تعليم كل الفرد وكل فرد في المجتمع. لقد سبق أن دعونا إلي فرض ضريبة قومية للتعليم علي الأنشطة الترفيهية والاستهلاكية, تفرضها الدولة من موقع القوة لتدعيم قدرة الإنفاق علي التعليم, وأن تكون حركة التوسع في بناء المدارس والجامعات حركة نامية ومستمرة ترفدها استعادة حقبة البعثات التعليمية المزدهرة كما كانت في عهد محمد علي وإسماعيل, لتضاعف أعداد المبعوثين الجامعيين إلي الخارج, ويمكن لمؤسسات المجتمع المدني وأرباب الصناعة أن يسهموا في هذا المشروع التعليمي الطموح, وكما تسهم جماعة مصر الخير في تمويل تدريب معيدي كلية تربية عين شمس بالسفر إلي الجامعات الكندية, وعلي مدي عامين بلا توقف. لو اجتمع أعداء مصر علي إفشالها فلن ينجحوا كما ينجح التعليم الفقير الموجود الآن في مصر, وهو ما وصفه نجيب محفوظ بعبارة شديدة المرارة ليس في مصر تعليم ولكنه جهل بالغ الرداءة. ثمة سؤال مهم: لماذا لم تحدث ثورة تعليمية بعد ثورة يناير ؟ وعندما طلبت مجلة شهرية ثقافية عريقة مساهمتي في الإجابةعن هذا السؤال حورت عنوان مقالي:لهذا لن تقوم ثورة تعليمية في مصر إلي إبدال( لا) ب( لن), مما فرغ المقال من معناه. لأن التعليم هو قلب الثورة الثقافية, والأخيرة لم تحدث حتي الآن بسبب إجهاض الحالة الثورية نفسها علي مدي عامين ونصف العام, فإن الثوار لم يصلوا إلي الحكم, بل وصل البيروقراطيون وسارقو الثورات, واستعراض وجوه وزراء التعليم والثقافة والإعلام بعد الثورة يؤكد أن التفكير البيروقراطي هو المستمر وطالما لم تقع الثورة الثقافية فلن يستمر الزخم الثوري, ولن ينتظر في حالة السيولة التي تمر بها مصر تغيرا راديكاليا علي مستوي بناء البشر تعليما وثقافة وإعلاما. التماهي بين استمرار الحالة الثورية والثورة الثقافية في قلبها التعليم مؤكد وقوي.. هل يمكن تلخيص الحالة التعليمية في مصر طيلة أربعة عقود في واقعة آلاء والتمثال والباب ؟ آلاء طالبة الإعدادي بشربين التي انتقدت مبارك في موضوع التعبير الحر بامتحان اللغة العربية فرسبوها, ونجحت بعد ذلك بقرار أو فرمان جمهوري تحت ضغط هياج الرأي العام. وتمثال إسماعيل القباني النحاسي الذي كان يزين مدخل المبني الرئيسي في كلية التربية جامعة عين شمس منذ افتتاحها سنة1960 فاختفي ذات ليلة قبل عشر سنوات تحت سمع وبصر الحرس الجامعي الذي يترحمون عليه الآن ومكتب الأمن, وطار التمثال, وتم صهره ولم يتحرك أحد للمساءلة حتي الآن. وباب وزارة التربية والتعليم الأثري الذي أسال لعاب وإعجاب أحد وزراء التعليم المشهورين فأمر بفكه ونقله إلي قصره بضواحي القاهرة, والواقعة مثبتة في تقارير الرقابة لدولة فسادستان المباركية, ولم يتحرك أحد. هل ما زلنا نطنطن أن التعليم مشروعنا القومي, وهو أقرب إلي أن يكون فضيحتنا القومية أشبه بفضيحة كوماسي الكروية, أم هو العضو المريض في جسد مصر المتعب؟ لمزيد من مقالات د. محسن خضر