ثمة دعوات تتجدد الآن من أجل مشروع ثقافي علي ضوء الموقف العصيب الذي تعيشه البلاد حاليا. والحقيقة أنه ما كان أحوجنا بعد ثورة25 يناير2011 الي التفكير والعمل في سبل تغيير الثقافة السائدة التي تفتقد الي إعلاء العقل والنقد وقيمة الانسان و قيم العمل و الإبداع والتسامح. فالحركات الجماهيرية الكبري في تاريخ الأمم من شأنها ان تحفز علي تطورات كبري أيضا علي صعيد الثقافة, حتي لو لم تسفر سريعا عن تغيير جذري في طبيعة السلطة السياسية وانتماءات وتوجهات القوي المجتمعية الحاكمة. وإذا ما أخذنا من ثورة1919 مثالا فإن العقود اللاحقة عليها شهدت إسهامات مقدرة لاسماء عظيمة في حياتنا الثقافية مثل طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ.وقد أسهم كل منها في صياغة وجدان جديد للطبقة الوسطي وفي بناء مشروع ثقافي حداثي لهذا البلد, ومن دون إكتشاف مصطلح المشروع في حينها. وحتي تلك الأحداث السياسية الأقل وقعا من الثورات الجماهيرية من شأنها ان تحفز علي التفكير من أجل تغييرات ثقافية كبري. وفي هذا السياق يمكننا اعادة قراءة كتاب طه حسين مستقبل الثقافة في مصر الصادر عام1938 بالانطلاق من الاعتقاد بأن معاهدة36 المصرية البريطانية من شأنها وضع البلاد علي طريق الاستقلال ومن الثقة بقدرة المصريين علي اللحاق بركب التقدم الإنساني والأخذ بأسباب الحضارة الحديثة. كما يمكن اعادة قراءة كتاب في الثقافة المصرية لعبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم الصادر عام1955 إنطلاقا من الصراع حول مسألة التحرر الوطني والإجتماعي و بين القديم والجديد في منتصف الخمسينيات. وهذا بصرف النظر عما إذا كان الكتاب الأول قد كرس معظم صفحاته للإنشغال باصلاح النظام التعليمي بما في ذلك الجامعي, فيما إهتم الآخر بقضايا الأدب ونقده. للأسف.. لا تعرف مصر بعد25 يناير والي الآن كتابا أو نصا متكاملا علي هذا النحو يطرح علي المجتمع مسألة التغيير في الثقافة المصرية. وحتي التيارات التي شغلت فضاء السياسة والمجال العام بشعاراتها عن الإسلام والشريعة لم تقدم اسهاما يذكر علي مستوي الثقافة أو الإبداع الفني من شأنه أن يثير جدلا مجتمعيا, أو حتي كتابا في السياسة أو التاريخ يمتلك شجاعة مراجعة الأفكار والأفعال أو يطرح نظرية لتقدم هذا المجتمع. وكأن هذه التيارات تعاني من إفلاس مزمن إزداد انكشافه في الحكم. فانخرطت في المزيد من السقوط في الإتجار بالدين بشعارات جوفاء لا تحمل أي حلول لواقعنا. ومع ذلك فإن جوهر مفارقة مايجري بعد25 يناير يكمن في أن صناديق الإنتخاب تأتي بأولئك الأكثر إخلاصا لقيم السمع والطاعة والتقليد والإتباع. وهي بالأصل عكس روح الثورة المتمردة وأهدافها ووقائع أيامها في ميدان التحرير. و تتعمق أزمة مفارقات ما بعد الثورة عندما تبدو مصر وكأنها بين خياري السمع باسم التنطيم الديني و الطاعة باسم التنظيم العسكري والأمني. إذا شئنا ان نخرج من هذا المصير و أن نحمي إرادة الناخبين بحق من القهر والخداع والتخلف فإن علينا ان نقيم مشروعنا الثقافي علي الديموقراطية و العقل والنقد والتعددية. وفي هذا السياق فإننا في أمس الحاجة الي ثورة شاملة في نظام التعليم توقظ العقول النائمة الغائبة وتدفعها الي التفكير العلمي والنقدي وفي مواجهة أي سلطة كانت, من الأسرة والحي والمدرسة والجامعة الي التنظيم السياسي والديني و مؤسسات الحكم.كما لا يمكن تصور أي مشروع ثقافي جديد إلا بالقضاء علي الأمية بجهد حقيقي جاد مخلص لا باطلاق الشعارات الخادعة والإحصاءات الكاذبة. ولأن المشكلة الأكبر في أي اختيار سياسي ديموقراطي بحق تبقي في الريف56 في المائة من السكان يتوزعون علي نحو4 آلاف قرية و المناطق العشوائية بالمدن نحو15 مليونا يمثلون17% يتوزعون علي نحو1200 منطقة فإننا نحتاج الي حزمة سياسات ثقافية قابلة للتنفيذ تجاه أهلنا هناك. وهم بالفعل ضحايا للإتجار بالدين و بالأصل للنظام المستبد الفاسد الذي أهمهلم وهمشهم فسلمهم فريسة سهلة لهذه التجارة.فلم يعد منطقيا التعويل علي عمل الدولة في الريف الذي يعود الي عام1959 كما قال الدكتور ثروت أباظة في الجزء الثاني من مذكراته. إذ ان جهاز الثقافة الجماهيرية منذ عام1965 بما أصابه من بيروقراطية وترهل وما واجهه من عراقيل عجز عن إقامة رؤوس جسور ثقافية مستقرة في القري, وحوصر في أنشطة شبه روتينية مكتبية في القاهرة وعواصم المحافظات. ولذا فإننا في مسيس الحاجة الآن الي تفكير خلاق من أجل التفاعل الثقافي مع القري والمناطق العشوائية. وربما تأتي في هذا السياق أفكار مثل إقامة شقق ثقافية تضم كل منها مكتبة للكتب والوسائط الالكترونية و البصرية والسمعية. علي ان يقوم علي إدارة وتشغيل هذه الشقق الثقافية بالأساس مثقفون متطوعون او يعملون بأجر رمزي من أبناء هذه المناطق نفسها. ويمكن تمويل هذا النشاط عبر صندوق أهلي يتلقي التبرعات من المواطنين, فضلا عن حصة من ميزانية وزارة الثقافة. وببساطة الحلول الأمنية لن تؤدي الي الكسب في السياسة وفي أي انتخابات نزيهة, ولأن من يريد الكسب في ساحة السياسة و صناديق الإقتراع عليه أن يبدأ وبجد وإخلاص معركة الثقافة أولا.. ومن الآن.