هناك رجال يختارون طريقهم في الحياة بهدوء ودون ضجيج مفتعل ويصنعون قدرهم بالعزيمة والإصرار بغير مزايدة ولا متاجرة ويجعلون من احترام النفس ركيزة لحياتهم. ومن المؤكد أن سلامة أحمد سلامة من أبرز النماذج التي انتهجت هذا الطريق في الصحافة المصرية في الثلاثين عاما الماضية فحظي بالتقدير والاحترام وإن لم يحظ بالمناصب والمغانم. وللأسف أن من يسيرون في الطريق الذي اختاره سلامة أحمد سلامة عادة ما يدفعون الثمن. وفي الثلاثين عاما الأخيرة سيطر علي الساحة من يرقصون علي سلالم السلطة فتقلدوا المناصب الرفيعة واعتلوا منابر الرأي دون وجه حق وخرجوا بنصيب الأسد من عملية تقسيم الغنائم. بالتأكيد أنه كان هناك مئات الصحفيين علي كل المستويات كانوا علي درجة كبيرة من الاحترام والالتزام واستطاعوا أن يحتفظوا بطهارة أقلامهم وسط أجواء فاسدة فكانوا القلاع التي حمت الصحافة المصرية من أن تنزلق إلي الهاوية وتفقد ثقة القارئ بالكامل وكانوا نقاط الضوء التي أنارت طريق المستقبل. لكنه بما لدي الحاكم من نفوذ فقد تسلطت الأضواء علي أبواق السلطة الذين حللوا ما لا يحلل وبرروا ما لا يبرر. ومنذ نشأتها لعبت الصحافة المكتوبة دورا خطيرا في تطور المجتمعات البشرية وشاركت في توعية الشعوب وتحريك الجماهير وظلت المصدر الرئيسي لمعرفة الأحداث قبل ظهور وسائل الإعلام الإلكترونية وعلي رأسها التليفزيون. وفي مصر كان للصحافة منذ بدء ازدهارها في نهايات القرن التاسع عشر إسهام ضخم في تعبئة الناس ضد الاستعمار البريطاني ونشر مبادئ النهضة وحركة التنوير بالإضافة إلي الانفتاح علي العالم الخارجي. وقد أدركت ثورة يوليو52 أهمية الصحافة فاستخدمتها كأداة للترويج لمبادئها وإقناع الشعب بالتوجهات الجديدة وكان الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل هو رمز لتلك الحقبة المهمة التي تغير فيها وجه مصر ومازال هناك جدل عنيف حول تقييمها سلبا أو إيجابا إلي يومنا هذا. وهناك مدرسة صحفية تقوم علي فكرة أنه لابد من إرضاء القارئ وتقديم ما يثير انتباهه واهتمامه بغض النظر عن الحقيقة. فالصحفي الشاطر بالنسبة لهذه المدرسة هو من يساهم في رفع توزيع جريدته وزيادة عدد قرائها. ومن أجل بلوغ هذا الهدف فإن الالتزام بالواقع والحقيقة يأتي في المرتبة الثانية في سلم الأولويات. فعدد النسخ المباعة من الصحيفة هو الفيصل والدليل علي النجاح المهني. ومن بين المقولات الشهيرة لأقطاب هذه المدرسة الموجودة في كل مكان بالعالم أنه إذا قام كلب بعض رجل فهذا ليس خبرا صحفيا يهتم به القارئ. أما إذا قام رجل بعض كلب فهذا هو الخبر القادر علي جذب انتباه الناس وجعلهم يقبلون علي الصحيفة. وللأسف إن هذه المدرسة كسبت أرضا في الصحافة المصرية خلال الأربعين عاما الماضية وأصبح بعض الصحفيين يكتبون وهمهم الأول هو جذب انتباه القارئ وإرضاؤه بشتي الوسائل. لكنه ظل هناك كما قلت مئات من الصحفيين الشرفاء المتمسكين بأخلاقيات المهنة والحريصين علي مصلحة مصر أولا وهؤلاء ظلوا يكتبون بوازع من ضمائرهم والتزامهم الأخلاقي. ولا شك أن سلامة أحمد سلامة كان نموذجا من أبرز نماذج هذه الفئة من الصحفيين الذين ضحوا بالمناصب والترقيات من أجل أن تظل الصحافة المصرية تمارس دورها الرائد في خدمة المجتمع والمواطن وليس خدمة السلطة والحاكم. وإحقاقا للحق فقد ترك النظام السابق هامشا من الحرية للصحافة المكتوبة فاستغله الكتاب الشرفاء لكشف الفساد والاعوجاج الذي كانت تمارسه السلطة وتطورت الأوضاع حتي صار الأمر وكأن الحكومة تقول للصحفيين: اكتبوا ما تريدون ونحن نفعل ما نريد. وكانت السلطة تدرك أن هامش الحرية هو بمثابة متنفس يساعد علي تأجيل الانفجار ولم تتصور أن الانفجار آت لا محالة وأن موعده يوم 25 يناير 2011 ومنذ أن عهد إلي سلامة بكتابة عمود يومي بالأهرام آل علي نفسه الدفاع عن حرية الرأي والتعبير وكان من أوائل من أولوا اهتماما منهجيا بحقوق الإنسان. فقد كان مبدأ حقوق الإنسان في مصر والعالم العربي مجرد تعبير تلوكه ألسنة المسئولين لكنهم لا يعنوه في الواقع والممارسة وكان يخفي موقفا مزريا من حقوق الإنسان المصري التي كانت تنتهك يوميا في الطريق العام وداخل أقسام الشرطة. وقد تصدي سلامة لهذه الأوضاع وكشف الكثير من المواقف التي تعتبر انتهاكا صارخا لحرية الرأي ولحقوق الإنسان وبدأ ينشر الوعي بهذه القيم السامية ليس كشعارات جوفاء تلوح بها السلطة لتخدير الشعب ولكن كممارسة لابد أن تنسحب علي جميع المواطنين دون تمييز. كان عمود سلامة لسنوات طويلة مدرسة تعلم منها الكثيرون مبادئ الديمقراطية وحرية التعبير وحقوق المواطن وغير ذلك من القيم التي تعد خطوطا فارقة بين المجتمعات المتقدمة والمتخلفة. وشجاعة القلم تختلف عن الشجاعة الجسمانية. وأذكر أن الراحل الكبير محمود السعدني قال يوما أمامي بخفة ظله المعهودة: عندما أمسك بالقلم أشعر أنني أسد لا يخشي شيئا في الوجود لكني عندما أري عسكريا في الشارع أصاب بالذعر وأجري علي الرصيف الآخر. وكان سلامة يتحلي بتلك الشجاعة الأدبية التي لا بد أن نقف لها تحية واحتراما. وعندما اختفي عمود سلامة فقدنا صوتا ينطق بالحق ويقف بصلابة في وجه الباطل. المزيد من مقالات شريف الشوباشي