تحريف النص الديني المقدس من أخطر الجرائم الفكرية والروحية التي يرتكبها المتاجرون بالدين في كل العصور, وهم يرتكبون هذا الجرم تضليلا للعامة من أجل طلب المال أو السلطة أو التعصب لمذهب أو عقيدة أو لحل مشكلات لم تكن متوقعة أو لتملق نظام مستبد يزعجه النص الأصلي خاصة إذا كان ذا مفهوم محدد صارم. وقد نص القرآن علي شدة جرم هؤلاء المحرفين في مواضع متعددة ووصفهم بأنهم يحرفون الكلام عن مواضعه وأنهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه مع علمهم بحقيقة معناه ومراده الأصيل. وهذا التحريف يكون بصور متعددة منها: تبديل اللفظ بلفظ آخر وهو أدني أنواع التحريف وأقربها إلي البدائية والسذاجة, ومنها: تأويله تأويلا بعيدا عن المقصود فتؤخذ العبارة المجازية علي أنها حقيقية والحقيقية علي أنها مجازية وهذا يتطلب قدرا من المهارة اللغوية والقدرة علي السفسطة والتلاعب بالمعاني والمدلولات ومنها: اقتطاع النص من سياقه ومناسبته ثم تطبيقه علي سياق ومناسبة غير مشتركين مع السياق والمناسبة الأصليين في العلة وغير متشابهين بهما تشابها جوهريا وهذا النوع من التحريف هو أعظمها مكرا وأكثرها تدليسا وأبعدها خفاء. وقد حفظ الله القرآن الكريم من تحريف الألفاظ وتبديلها بأخري, أما التأويل البعيد فقد وقعت فيه بعض الفرق الشاذة, وأما قطع النص عن سياقه ومناسبته فهو-للأسف-وقع وما زال يقع كثيرا ويستعمله المنحرفون من الذين يقودون الجهلة,ويدعون العلم بالدين وهم غير راسخين فيه,ونراه في عصرنا شائعا شيوعا مشينا حتي ليحار العلماء في دحضه لخبثه وكثرته لا لعمقه وثباته في مواجهة الحجة. وتحظي جماعة الإخوان بنصيب موفور من هذا النوع الماكر الأخير وأضرب علي ذلك مثالين من تحريفاتهم وهما مفهوم التمكين والاستخلاف في الأرض ومفهوم الجاهلية فأما التمكين والاستخلاف فقد ذكرهما القرآن في آيتين: آية في سورة الحج وهي الآية رقم41 حيث يصف الله المؤمنين من المهاجرين الذين أوذوا في مكة وطردوا من ديارهم وقد أذن لهم بالدفاع عن أنفسهم وقتال المشركين فقال:الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور وآية في سورة النور وهي الآية رقم55وفيها يعد الله المؤمنين الذين يعملون الصالحات بأن يستخلفهم في الأرض ويمكن لهم دينهم بشرط أن يعبدوه لا يشركون به شيئا. وواضح من الآيتين أن التمكين في المفهوم القرآني نعمة ينعم الله بها علي المخلصين من عباده, فالتمكين إذن ليس غاية في ذاته ولكنه وسيلة من اجل تحقيق غاية وهي: التوحيد وترك الشرك. وإقامة الصلاة. وإيتاء الزكاة. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي الدعوة. فهل نري هذه الغاية بصورها متحققة في ارض مصر أو نراها غير متحققة؟ هل يعرف المصريون التوحيد أو لا يعرفونه؟ هل ينطق المصريون بالشهادتين أو لا يقرون بهما؟ والجواب أنهم موحدون وأنهم من أكثر الناس ترديدا للشهادتين. هل يقيم المصريون الصلاة أو لا يقيمونها؟ والجواب أنهم يقيمونها وهذه المساجد شاهدة بكثرتها ومآذنها العالية تردد الأذان خمس مرات في كل يوم وليلة وترديد الأذان هو علامة الإسلام. هل يؤدي المصريون الزكاة أو لا يؤدونها؟ والجواب أنهم يؤدونها إما بصورة فردية وإما بصورة اجتماعية أي حين تقوم بجمعها لجان الزكاة في المساجد والجمعيات الخيرية ثم تتابعها وتحاسبها الجهات الحكومية. هل يأمر المصريون بالمعروف وينهون عن المنكر؟ والجواب أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولكنهم لا يفعلون ذلك عشوائيا وإنما يتبعون نظاما علميا تربويا فتقوم بإعداد الدعاة أقسام وكليات متخصصة,ثم تشرف علي أدائهم وزارة تفرغت لهذه المهمة; فالغايات التي يراد التمكين من أجلها كما نصت الآيتان متحققة أصلا; فماذا تريد جماعة الإخوان وأشياعهم؟! ما التمكين الذي يريدونه؟!ولأية غاية يشتهونه؟!إنهم يريدون التمكين للجماعة لا للدين, أما الدين فهو معبر أو مطية للدنيا وللعلو في الأرض بغير الحق. وأما الاستخلاف في الأرض فإن نص آية النور يصرح بأنه وعد من الله وأنه جائزة, والجائزة يعطيها صاحبها وقتما يشاء وكيفما شاء فليس مطلوبا من العباد أن يدبروا أو أن يكونوا الجماعات والأحزاب من اجلها وإنما المطلوب منهم أن يلتفتوا إلي ما هو أولي بهم,وهو الإيمان والعمل الصالح والعبادة التي لا شرك فيها فهذا هو التكليف, أما هؤلاء الذين دعوا أنفسهم بالإخوان المسلمين ودعا أشياعهم أنفسهم بالجماعات الإسلامية فإنهم تركوا النظر الي التكليف وعلقوا عيونهم بالوعد أو بالجائزة فكانوا طلاب دنيا لا طلاب دين! وأما مفهوم الجاهلية فقد أطلقه القرآن علي تلك الحقبة التي سبقت ظهور الإسلام وهي حقبة ليست ممتدة امتدادا مطلقا الي مطلع الوجود الإنساني وإنما هي تبدأ عندما فقد العرب الحكومة المسيطرة بعد أن تمرد العدنانيون الشماليون علي سلطان اليمنيين الجنوبيين, وقتل المضريون الملك حجر والد امرئ القيس الشاعر واقتتال قبيلتي بكر وتغلب بعد اغتيال كليب ابن وائل زعيم القبيلتين وهي حقبة لا تتجاوز مائتي سنة قبل ظهور الإسلام, وهي ليست من الجهل الذي هو ضد العلم وإنما هي من الجهل الذي هو ضد الحلم فهي تعني الأنفة وشدة الغضب وسرعة البطش والعجلة الي قتال الخصوم, ففقدت جزيرة العرب الاستقرار وعاشت القبائل في صراعات ومعارك وثارات. وما أبعد هذه الحالة الجاهلية عن حضارة المصريين الذين هم أقدم الشعوب اعتيادا علي استقرار نظام الحكم واحترام القضاء وحب الألفة واجتماع الشمل وأكثرهم انقيادا لتوجيهات الدين المنافية لطباع الجاهلية. إن الإخوان وأشياعهم بنزعتهم الإرهابية هم بقايا الجاهلية وهم دعاتها الذين لا يريدون للوطن استقرارا ولا نسمع منهم إلا نعيبا كنعيب البوم ونعيق الغربان. لمزيد من مقالات د. محمد فايد هيكل