في الثامن من يناير الحالي نظم مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في أبو ظبي محاضرة بعنوان: الأعمال التجارية الاجتماعية.. طريقة لحل المشكلات الأكثر إلحاحا في المجتمع, ألقاها الأستاذ الدكتور محمد يونس, الحائز علي جائزة نوبل للسلام, عام2006, رئيس مركز يونس, مؤسس بنك جرامين( الفقراء) في جمهورية بنجلاديش الشعبية, ومؤسس ما يربو علي50 شركة أخري في بنجلاديش. إذا حق لنا أن نعلق علي ما جاء في تلك المحاضرة فيمكننا القول: إن سياسة القروض للفقراء من خلال تجربة الدكتور محمد يونس تتلخص في قضية واحدة, هي الثقة, وقد أعادها إلي الملايين في بلاده وبعض دول العالم, فأولئك الذين يعيشون في حياة بائسة, بعد أن نسيتهم الحكومات أو عجزت عن تقديم المساعدة لهم, تعيد لهم تلك القروض الثقة في عوالمهم الخاصة وفي البشر, ما يعني أن الفقر كما فهمت من كلام محمد يونس ليس قدرا محتوما. المسألة إذن, تتعلق بمدي الجدية في طرح أفكار التغيير والعمل من أجلها, وهو ما قام به يونس, فقد حرك الجانب العملي في نفوس الفقراء فكانوا هم عملاء بنك جرامين, في حين تركز البنوك التقليدية علي الأغنياء, وذهب إلي القري والأرياف, في الوقت الذي اهتمت فيه البنوك التقليدية بالمدن, وكانت الأغلبية الساحقة من عملائه من النساء, وذلك علي عكس البنوك التقليدية التي معظم عملائها من الرجال. لكن الأهم من ذلك كله هو تركيزه علي حل المشكلات الاجتماعية, أي محاربة الفقر في أشكاله المتعددة, بل محاربة أسبابه ونتائجه أيضا, فمثلا: كل معاملات بنك الفقراء تتم في الميدان أي في بيوت الفقراء, وذلك نوع من المشاركة, ناهيك عن التأكد من صحة المعلومات, لأن القروض لا تمنح إلا لمن هم أشد فقرا في المجتمع, وهذا شرط أساسي, وقد أثبتت تجربة محمد يونس جدواها عمليا, لذلك من الطبيعي أن ينزل الفقر بنسبة50%, في بنجلاديش, وهي من بين أشد دول العالم فقرا وعدد سكانها بلغ مئة مليون, هذا في الوقت الذي تزيد فيه نسبة الفقر في دول أخري غنية في العالم, ومنها بعض الدول العربية. لقد كان من المنتظر تراجع الفقر في بنجلاديش بنسبة50% بنهاية العالم2015, حسب الخطة الموضوعة, لكن المدهش أن ذلك تحقق في يونيو2013, أي قبل عامين ونصف العام, الأمر الذي يعتبر إنجازا كبيرا, بل إن محمد يونس تحدي الحاضرين ومن خلالهم العالم أن يجدوا فقيرا واحدا في بنجلاديش بنهاية العام.2030 السؤال هنا ما سر هذا النجاح؟.. يعود ذلك, إلي إعادة بث الثقة في الفقراء, حتي انه لا يوجد ضمانات من أي نوع للحصول علي القروض, هذا أولا, وثانيا: توفير بيئة مناسبة لنمو هذه الفكرة, وثالثا: القناعة بأن الفقر في دول العالم مهما اختلفت أسبابه وبيئاته هو أمر واحد, ومعاناة الفقراء في العالم واحدة بدليل نجاح تجربته في بنجلاديش والولاياتالمتحدة وبداية تنفيذ خطة طموح في هاييتي بعد الزلزال, وانتشار فكرته في تركيا, وهي كما نعرف بيئات مختلفة من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. لقد انطلق يونس في تجربته الشاقة, بمحاولة الترويج لفكرة القروض الصغيرة للفقراء في قري بنجلاديش النائية,سواء من الأشخاص أو المصارف الأهلية,حتي اضطر إلي إقراض الفقراء من جيبه الخاص.. بعدها انتقلت الفكرة إلي القري الصغيرة المحيطة,وراح الفقراء المطالبون بالقروض يزدادون يوما بعد يوم, الأمر الذي اضطره إلي الذهاب إلي المسئولين في المصارف لإقناعهم بأهمية تسهيل قروض الفقراء واستثمار الأعمال التي ينشئونها, غير أن المصارف اتهمته بالجنون بسبب أفكاره هذه, لأن الفقراء ليس لديهم أي ائتمانات تضمن سداد قروضهم, لكنه أصر علي هذه الفكرة, وسعي إلي إنشاء بنك صغير أطلق عليه اسم بنك جرامين أي الفقراء وذلك في عام.1976 وكانت المفاجأة أن نسبة الفقراء الذين سددوا قروضهم المالية بلغت نحو97%, وهي أكثر بكثير جدا من نسب تسديد الأثرياء وذوي الدخول والائتمانات لقروضهم, حتي إن فكرة إقراض الفقراء انتشرت في جميع أرجاء القري والمناطق في بلاده. وبمرور الوقت فإن فكرة القروض تطورت إلي مشاريع تجارية غير ربحية, المستفيد الأول منها هو الشعب, وفي تجربته الشخصية الميدانية ما يؤكد ذلك,فحين كان يزور بيوت القرية, اكتشف أن الأطفال يصابون بالعمي ولا يبصرون شيئا عندما تغيب الشمس, وعند استفساره عن الأمر أخبره الأطباء أن هذا المرض هو العشي الليلي الذي يتسبب فيه نقص فيتامينA الذي يتوافر في الخضار والأدوية, الأمر الذي دعاه للقيام بحملة صحية وإعلامية وضح فيها للناس أهمية تناول الخضار مع إعطائهم الدواء بأسعار زهيدة, ثم اشترط في منح القروض للفقراء ضرورة إنشاء دورات مياه وحفر صغيرة في بيوتهم بهدف مكافحة الأمراض, فضلا عن نجاحه في تعميم فكرة شراء محطات كهربائية صغيرة تعمل علي الطاقة الشمسية في قري بلاده; لأن نسبة الذين لا تصلهم الطاقة الكهربائية من السكان نحو70%. ومن النجاحات العملية, التي حققها يونس, هي أن عدد المقترضين الفقراء في بلاده بلغ نحو11.5 مليون مقترض, في وقت يبلغ عدد المقترضين في العالم من الفقراء نحو167 مليون مقترض, وأن بنك جرامين توسع وبات لديه2600 فرع في جميع قري بنجلاديش, كما صار له فروع في الخارج, ووصل نشاطه إلي الولاياتالمتحدةالأمريكية فافتتح فروعا عدة فيها, حيث بلغ عدد المقترضين في نيويورك وحدها نحو20 ألف مقترض, وقد وصل الالتزام بتسديد القروض إلي نسبة99%, وهو أمر لم يحصل يوما في عالم القروض في البنوك الأخري, في وقت بلغت قيمة القروض اليوم نحو مليار ونصف المليار دولار. عمليا, لم يكتف الدكتور محمد يونس بالجانب العملي في محاربة الفقر, بل إنه يواصل نقده للبنوك بسبب الفوائد الربحية التي تتقاضاها من الناس, من ذلك قوله: إنها تجردت إلي حد كبير من الصبغة الإنسانية, وبات المال يشكل كل همها في هذه الحياة, ونتج عن ذلك نسيان أنفسنا وإلهنا. كاتب وصحفي جزائري لمزيد من مقالات خالد عمر بن ققه