لايرتاح الناس في المجتمعات ذات التاريخ الزراعي والثقافة الريفية والتقليدية إلي كلمة الصفقة, بخلاف الحال في المجتمعات الصناعية. ولذلك يبدو وقع هذه الكلمة علي المصريين سلبيا في معظم الأحيان. فقد قام المجتمع المصري تاريخيا علي الزراعة حول نهر النيل. وحتي عندما حدث التطور نحو الصناعة في أوائل القرن العشرين, ارتبط هذا التطور في بدايته بالزراعة ارتباطا وثيقا حيث ولدت الرأسمالية الصناعية من رحم كبار الملاك الزراعيين. كما اعتمد النشاط الصناعي علي سلع زراعية أهمها القطن الذي تفوقت مصر في زراعته تفوقا كان مضرب الأمثال في ذلك الوقت. وقبل أن تتوطد أركان الرأسمالية الصناعية لجأت السلطة التي تمخضت عن ثورة1952 إلي سياسة التأميم, وأقامت نظاما اشتراكيا عززت ثقافته النظرة السلبية إلي فكرة الصفقة. فالثقافة الاشتراكية تعتبر الصفقة عملا طفيليا من النوع الذي أسهبت أدبيات ماركسية في ذمه. والطريف أن السياسة الاقتصادية التي أعتمدت منذ منتصف سبعينات القرن الماضي وأطلقت العنان للنشاط الخاص, ولكل ما هو غير عام في المجتمع, لم تؤثر كثيرا في هذه النظرة علي مدي نحو أربعة عقود حدث خلالها تغير اجتماعي واسع النطاق. فقد ظلت النظرة إلي فكرة الصفقة سلبية بالرغم من أنها صارت مركزية في العلاقات والتفاعلات الاقتصادية. وبقي وقع كلمة الصفقة غير مريح بالرغم من أن أغلبية كبيرة من المصريين يعملون الآن في أعمال حرة تعتمد بالاساس علي اتفاقات وتعاقدات يدخل الكثير منها في نطاق الصفقات. فلم تعد مصر الآن مجتمع موظفين بخلاف ماكانت عليه في الربع الثالث من القرن الماضي, فالقسم الأكبر من المصريين اليوم يعملون في التجارة بأشكالها المختلفة والمهن الحرة أو يلتقطون رزقهم يوما بيوم عبر عمل موسمي عشوائي. والأكثر طرافة هو أن النظرة إلي فكرة الصفقة مازالت غير ايجابية في مجتمع شاعت السمسرة في أرجائه, وصار الكثير من أبنائه يبيعون أو يشترون أو يتوسطون, بل بات كل شئ قابلا للبيع والشراء. وإذا كانت النظرة إلي فكرة الصفقة مازالت غير إيجابية بوجه عام, فهي تبدو أكثر سلبية كلما انتقلنا من مجال الاقتصاد والتجارة والاستثمار إلي ميادين أخري من أهمها السياسة. وساهم تيار رئيسي في المدرسة التاريخية المصرية في تعزيز النظرة السلبية إلي الصفقات السياسية والحزبية عندما ركز في تحليله لاختلالات المرحلة شبه اللليبرالية(1923 1952) علي الصفقات التي حدثت بين القصر أو الملك وأحزاب الأقلية غير أن الصفقات في العلاقات بين الأطراف المختلفة في الحياة السياسية ليست سيئة كلها, ولا هي مشينة علي وجه العموم. فبعضها كذلك بالفعل, ولكن بعضها الآخر قد يكون طبيعيا ومن مقتضيات إدارة العلاقات بين أحزاب وقوي سياسية.. خذ مثلا الاتفاقات التي تحدث بعد الانتخابات في كثير من النظم الديمقراطية لتشكيل حكومات ائتلافية متعددة الأحزاب. فبعض الاتفاقات الائتلافية, وربما الكثير منها, يعتبر صفقات بالمعني المحدد للكلمة. فكم من احزاب تنضم إلي حكومة ائتلافية لتوفير الأغلبية اللازمة لحصولها علي الثقة في مقابل نيل مكاسب. ومن هذه المكاسب مالايعتبر سياسيا, وإنما اقتصادي. ولاتكون الصفقة في هذا السياق مشينة إلا إذا تخلي الحزب عن مبدأ اعتنقه أو موقف تمسك به في مقابل مكسب يعود عليه من جراء انضمامه إلي ائتلاف حكومي. كما تكون الصفقة مشينة إذا أبرمت بين حزبين أو أكثر بهدف إلحاق الأذي بحزب أو تيار آخر, دون أن يكون فيها مايحقق أية مصلحة عامة. ولكن هذه المعايير لايمكن تعميمها إلا علي نظم الحكم الديمقراطية الكاملة التي تحكمها قواعد واضحة للعبة السياسية تحظي بتوافق عام وتتيح للجميع فرصا متساوية. ولذلك فإن مايعتبر صفقة عادية في نظام ديمقراطي كامل قد لايبدو كذلك في غيره. ومايستقبله الجميع بشكل طبيعي في إطار ممارسة ديمقراطية كاملة قد يثير غضبا أو ينطوي علي حساسية في سياق آخر. ولعل هذا الفرق يزيد النفور من أي حديث عن صفقات سياسية أو حزبية في مصر ويضفي عليه حساسية شديدة, كما حدث في الأيام الماضية بمناسبة ما تردد من تكهنات عن صفقة للحزب الوطني مع حزب الوفد. فبسبب هذه الحساسية, طغي الجدل حول وجود صفقة من عدمه علي النقاش الأكثر جدية بشأن إمكان عقدها من حيث الاصل, وحول توافر امكاناتها من الناحية الفعلية بغض النظر عن الرغبات والنوايا. ولذلك بدا الجدل حول تلك الصفقة مفارقا للواقع, لا لشئ إلا لأنها ليست ممكنة عمليا حتي إذا كانت هناك رغبة فيها. فلا يستطيع الحزب الوطني أن يلتزم بمنح مقاعد لأي حزب آخر حتي إذا رغب في ذلك لأنه يعاني مشكلة عدم التزام حزبي. ولذلك لم يتمكن, منذ انتخابات1990, من إقناع أعضائه الذين لايرشحهم بالالتزام بقائمة مرشحيه. فأصبح انشقاق عضو أو أكثر لخوض الانتخابات مستقلين ضد مرشحه الرسمي إحدي أبرز ظواهر الانتخابات المصرية. فإذا كان أعضاؤه لا يلتزمون بدعم مرشحه, فكيف يمكن تخيل أنهم سيدعمون مرشح حزب آخر أو علي الأقل يمتنعون عن خوض الانتخابات ضده! ولذلك أخذ الجدل حول هذا الموضوع حيزا أكبر بكثير من حجمه بسبب الحساسية الشديدة التي يثيرها أي حديث عن صفقة سياسية أو حزبية, وليس فقط لأن أحد طرفيها هو الحزب الحاكم, وثانيهما حزب معارض. فقد قوبلت الصفقة بين الوفد و الإخوان المسلمين عام1984 بحساسية أيضا, الي جانب اعتراض البعض مبدئيا عليها, وهي التي كانت بين طرفين في المعارضة. وما لم يكن لدينا مثل هذا الإفراط في الحساسية من أية صفقة سياسية لما أعتبر كثيرون ماقيل عن اتفاق حدث بين الدولة والاخوان عشية انتخابات2005 مشينا. فهذه الصفقة, إذا ثبتت, تعتبر من الصفقات الايجابية لأنها استهدفت إجراء الانتخابات في أجواء أقل توترا من خلال الاتفاق علي حد أقصي لمرشحي الإخوان وقد تحقق ذلك في المرحلة الأولي وجزء من المرحلة الثانية, قبل أن يتبين أن الحد الأقصي الذي تم الاتفاق عليه لم يؤد إلي الغرض منه. فالمشكلة, إذن ليست في الصفقات السياسية في حد ذاتها, وإنما في ثقافتنا السياسية التي يقل فيها, وأحيانا ينعدم, التمييز بين صفقة مشينة وأخري عادية, وثالثة قد تكون ايجابية. وبسبب هذه الثقافة, يثير أي حديث عن صفقة حزبية صخبا قد يتعذر في ظله إجراء نقاش موضوعي أو حوار بناء.