لا يمكن أن ينهار عقار في مصر دون أن نشم من وراء الأنقاض روائح كريهة لأشكال وألوان من الفساد, ربما يكون إهمالا أو استهتارا أو تقصيرا وربما يكون تواطؤا مع سبق الإصرار... المحصلة واحدة فالثمن لا يدفعه عادة سوي أبرياء يفقدون فجأة ودون مبرر أو سابق إنذار. الستر الذي توفره لهم أربعة جدران, ويصبح الدفء بالنسبة لهم حلما لا يتحقق ولو بإشعال النيران. كلما مررت بحكم القرب المكاني من أصحاب كارثة عمارة فيصل التي انهارت قبل منتصف ليل أول يوم شتاء حقيقي هذا العام وهم يتجمعون في قطعة الأرض الفضاء التي كانت سببا في نكبتهم هم وعشرات الأسر في العمارات الأخري المجاورة الذين لا يستطيعون الاقتراب من بيوتهم بسبب قرارات الإخلاء.. كلما شعرت بالغضب من ذلك السيناريو اللعين الذي جعلني اصر علي طرح تساؤلات كارثية دارت بذهني عقب جلسة جمعتني بعدد من منكوبي عقار فيصل المنهار والعقارات الأخري التي علي وشك الانهيار.. استمعت إليهم علي مدي ثلاث ساعات وأنا أرجف من برد يعصف بجلستنا بالعراء, حاولت أن أشاركهم لمتهم حول بقايا أخشاب يحرقونها طلبا لدفء فلا تأتيهم إلا برائحة شياط. علمت منهم كيف أن الفساد وصل لدرجة أنهم يتناوبون ليلا ونهارا علي حراسة موقع الجريمة الشنعاء لأن الطرف الآخر حاول التسلل ليلا لطمس آثار التخريب والتنقيب التي مازالت شاهدة علي محاولات عمدية للإضرار بالعقار علي حسب ما قالته لنا سحر المنير, موضحة أنه بينما ضاعت آثار الجريمة علي عقارهم المنهار فإنها لا تزال واضحة علي باقي العمارات الأخري التي تبدو وكأن تفريغا مقصودا للأساسات جري بها من الخلف, صحيح أن هناك وجودا مستمرا لأفراد من الأمن المركزي إلا أن رعب الأهالي من التواطؤ الذي أفقدهم بيوتهم جعلهم يتحملون المبيت في العراء خوفا من أن يخسروا قضيتهم وتضيع حقوقهم في التعويضات. بينما علمت من شقيقها سامح المنير كيف رأي بعينيه عتبة منزله تنفصل تماما وكأنها تنشق عن سرداب عميق فهنا أدرك بخبرته القديمة كدارس للهندسة المدنية أن هذه علامات انهيار أرضي, ومع ذلك عندما جاءت لجنة من حي العمرانية بناء علي محضر سارعوا بتحريره بقسم الشرطة قالت لهم: لا تخافوا ولا تحزنوا عودوا إلي بيوتكم,ويضيف سامح: لم ينقذنا من الموت تحت الأنقاض سوي صديق لي أستاذ هندسة صرخ فينا بشدة عندما رأي شروخ الأعمدة والأرض: اخرجوا بسرعة هذا العقار لن يصمد للصباح!! ولذا كنا نضحك ضحكا ممزوجا بالألم ونحن نستمع لوسائل الإعلام التي تذيع تصريحات حول سرعة تحرك المسئولين ونداءات الدفاع المدني لإخراج السكان لأن شيئا من هذا لم يحدث حتي الغاز الطبيعي نحن الذين سارعنا بالاتصال به لإنقاذ المنطقة بأسرها من الاشتعال وجاءنا متأخرا ونحن الذين أوقفنا المرور في شارع فيصل الرئيسي كيلا تسقط العمارة علي المارة والسيارات!!! كما شعرنا بالألم لدرجة البكاء مما كتبه بعض محرري الحوادث من أن العقار قديم وآيل للسقوط ونحن نتحدي بعماراتنا المبنية من الثمانينيات وبالرسومات الهندسية هذه الادعاءات. مسلسل التقصير والتواطؤ يستمر علي لسان ناهد عبد السميع عمارة وهي ساكنة في عقار مجاور صدر له قرار إزالة تقول: استغثنا بالنجدة قبلها بيوم من أعمال الشفط الرهيب للمياه والتربة أسفل منازلنا وتم التعامل مع شكوانا بلامبالاة, رغم أن التربة في فيصل كانت تربة زراعية وكانت تمر بها ترعة, وأي مهندس أو مسئول لا بد أن يعلم خطورة الشفط وتأثيره علي خلخلة التربة أسفل العقارات, فكيف خفي هذا علي المسئولين والمهندسين المختصين!! ووسط هذه الأجواء يظهر لغز لا يقوي أحد علي تفسيره وهو أن قطعة الأرض التي كان يستعد أصحابها لبنائها أبراجا سكنية أومولا ضخما من المفترض أن يشقها وفقا لقرار التقسيم شارع عرضه لا يقل عن ستة أمتار يأتي استكمالا لشارع عبد الناصر القبلي, ولا ندري والكلام هنا لسامح المنير هل صدر فعلا ترخيص من الحي بالحفر والبناء متجاهلين الخرائط المساحية التي تؤكد وجود الشارع, خاصة أن المباني القديمة بالمكان كانت موجودة قبل صدور قرار التقسيم؟ والأهم لماذا كانت أعمال الحفر لا تتم إلا ليلا وتنتهي بطلوع النهار, وهل العمل ليلا كفيل بالتهرب من أنظار المسئولين والرقابة والإشراف المستمرين؟؟ ربما يظن البعض أن انهيار المسكن أشد وطأة من إخلائه ولكن الحقيقة التي علمناها من حديثنا مع عبدالعزيز عبدالباري بالمعاش أنه لا فارق بين المصيبتين فها هي ملابسه وملابس وأدوية علاج ابنه وابنته المريضين ذهنيا وكل مستلزماتهم وجهاز الكمبيوتر الذي كان يهون عليهما إعاقتهما كلها أشياء لاتزال موجودة وعلي بعد فقط أمتار منهم ولكن يدهم لا تستطيع أن تلمسها أو تقترب منها أو من بيت شهد أيام عمرهم بحلوها ومرارها, فدخول البيت ولو للحظة واحدة مخاطرة رهيبة لأنه مهدد بالانهيار بعد أن غادرت أعمدة المسلح به أماكنها, حتي لجنة المعاينة اكتفت برصد الميل الخارجي للمبني وتصدع الأعمدة والجدران ولم يستطع أعضاؤها الدخول للداخل. ورغم أن محدثنا مالكا هو وأسرته لهذا البيت إلا أنه لا يقدر علي توفير سكن بديل أو بناء بيت جديد ويقول: من أين لي بمصاريف البناء الآن وأنا رجل علي المعاش وأسعار مواد البناء أصبحت نارا غير ما فقدناه من متاع وأثاث وأجهزة كهربائية! وهنا تتدخل ساكنة أخري متضررة لتقول: لقد نزلت إلي الشارع بإسدال الصلاة ولم نحمل حتي كتب أولادنا ولا مصاغنا فلم يكن هناك وقت سوي للنجاة بأرواحنا. الغريب في مصر أن في ظل هذه الكوارث يظل الروتين مسيطرا علي مسار التحركات نحو معاقبة الجناة الذين اختفوا تماما من المشهد ولم تفلح أوامر الضبط والإحضار في الإمساك بهم مكتفين بإرسال وسائط للتفاوض مع الضحايا بضم أرضهم لقطعة الأرض الفضاء مع الوعد بإعطائهم شققا بعد إتمام البناء. ورغم أن هناك محضر معاينة صدر في اليوم التالي للانهيار أي قبل أسبوعين من الآن بمعرفة لجنة مشكلة من مركز بحوث ودراسات الهندسة المدنية بجامعة القاهرة وبحضور مسئولي حي العمرانية واسكان الجيزة انتهت إلي إقرار أن أعمال الحفر ونزح المياه التي تمت بقطعة الأرض الفضاء المجاورة للعقار هي السبب في الانهيار. إلا أننا لا ندري لماذا استدعي الأمر تشكيل لجنة ثانية وثالثة تحت الانعقاد! يحدث هذا وهم يعلمون أن هناك عشرات الأسر يسكنون العراء أو يتحملون الحرج وهم يبيتون ليلهم عند الأقارب والجيران ويقضون حاجتهم بالمساجد القريبة من المكان, وأن هناك أصحاب محال تجارية هبطت محالهم ببضائعها تحت الأرض مسافة ثلاثة أدوار أسفل الأنقاض وتحاصرهم الديون وأثمان البضائع الآجلة, رحلة طويلة لا تزال تنتظر كل هؤلاء في ساحة القضاء بحثا عن التعويضات, ولكن بعد أن ينتهي عمل اللجان التي يمثل دائما قرار تشكيلها رعبا من الدخول في دائرة الروتين والموظفين والمسئولين الذين لا ندري هل أفاقوا بالفعل بعد كارثة هذه الأسر أم لا يزالون غائبين؟؟؟