لا يمكن لباحث أن يغض الطرف عن الطبقات الثقافية التي ظلت تتراكم حتي كونت ما يمكن تسميته بكثير من الثقة' ثقافة النيل', ونقصد هنا إلي المفهوم الأنثروبولوجي للثقافة. فهل وسم النيل الثقافة بميسمه, أم أن علاقة نشأت بينه والناس تعمقها الخبرة بالحياة فكانت العادات والتقاليد والممارسات والفنون والعمارة وأدوات العمل بأنواعها وتصنيفاتها, وهل استطاع النهر أن يتجاوز البيئات الايكولوجية المتعددة: صحراوية, وزراعية, ونهرية وهل طبعت البيئة ثقافتها علي الناس, أم ثمة علاقة عضوية بين الثقافة والبيئة, فكانت العادات والتقاليد والمعتقدات والآداب ولغات الجسد الإنساني, وعناصر الثقافة المادية, وما هي السمات الثقافية, التي يمكن أن نرصدها في تشاطئها مع نهر النيل, وهل تختلف هذه السمات بين المجتمعات البسيطة والمجتمعات المركبة التي تعيش علي النهر. إن تجليات النيل وما يشعه من ثقافة يصعب رصده في إطلالات عابرة, فعنده يتعانق الجيولجي مع الأنثروبولجي, والشعبي مع الفردي والعادة مع المعتقد والثقافة المادية مع الأساطير التي لم يتبق منها إلا بعض العناصر التي أصبحت بمثابة رواسب ثقافية حفرت عميقا وجرت مع حركة النيل لكنها سرعان ما تحولت لحفرية, من هنا فإننا نحلم بإنشاء مركز ومتحف لثقافة النيل, يضم كل ما يتعلق به علي مستويين: التراث- المأثور, لتنطلق بعد مرحلة التأسيس والجمع مراحل للتصنيف والتحليل, لكننا كدنا نحول النهر إلي جثة تطل منها العفونة, وإن رأيناه وهو يتجلي في الأشعار الشعبية والحكايات المروية بوصفه إنسانا تمر عليه كل المكبوتات والأحلام, وتجلياته متعددة في أدبنا الشعبي, حيث اكتسبت بعض الفنون الشعرية اصطلاحها منه, ومن الأعمال التي تتعلق به, فأصبح الشعر جزءا من آلية العمل, بل لم يكن العمل يتم إلا في سياقات تخلق الشعر, من هنا يمكن التعرف علي فن المربع بوصفه فنا مصريا نيليا, حيث يتكون من أربع حركات بنائية صغري هي: الطرح العتب الشد الصيد, وهي اصطلاحات تتعلق بالصيد في النيل, فتكون البداية بطرح الشبكة وما يشتبك معها من طرح الأفكار وبداية ميلاد المعني, وقوفا علي' العتب', أي الإمساك بخيوط البناء الأولي التي يسترسل بعدها المبدع الشعبي في التعرف علي ذاته وذوات أبناء جماعته ليصل إلي الوعي الجمعي, ثم الشد الذي يمثل استقامة البناء ووصوله إلي الشكل الذي يمكن أن يكتمل به المعني وتتسع معه الدلالة, يعقبه الصيد, أي صيد الحكمة واتصال أجزاء المعني, أتري النص الشعبي هنا يشبه النيل حين يبدأ من الوعورة حافرا مجراه ليصل إلي مصبه في هدوء يشبه صيد الحكمة. لقد استدعي النيل بظلاله ومنتجه لغة المصريين التي تأثرت في تركيبها بالنيل ككائن عضوي حي, له تأثيره الفادح في دورة الحياة, ففيها من النيل خبرته, وعندها تجري المعتقدات والعادات والتقاليد التي ثبتها النيل فصارت منظومة للقيم, وهي المنظومة التي لا تستقيم إلا عبر اللغة, فمن البذر والزرع إلي الحصاد, ومن إقامة الحدود وإعداد المساقي إلي الري, ومن صناعة آلات واختراع أدوات تتعالق بالنيل وحركته إلي فنون المصريين الشعبية التي استقت لغتها مما تطرحه هذه المنظومة, حيث يتشكل في المعارف والمعتقدات الشعبية بما تضم من أنواع وتجليات منها: الأنطولوجيا الشعبية الكائنات فوق الطبيعية الروح الأولياء والقديسون المتعلقون بالنيل والذين توجد لهم أضرحة علي ضفافه أو بالقرب منه( المرسي أبو العباس القنائي الإنبابي) المعارف والمعتقدات المتعلقة بالطيور التي تستوطن النيل الحيوانات النيلية أو المتعلقة به الأسماك والكائنات النهرية وما يرتبط بها من معارف الأعشاب الطبية الطهارة والنجاسة رؤية العالم معتقدات القاع والسطح والشاطئ معتقدات الأماكن السحرية في النيل المعتقدات المتعلقة بالغرقي.. إلخ, أما ما يرتبط بالعادات والتقاليد, فيمكن رصدها في عادات دورة الحياة بداية من عادات الميلاد ورمي الخلاص في النهر, وكذا عادة قص شعر البطن والصرة وإلقائه في النيل وفروعه, عادات الزواج والتبرك بالنيل ومياهه والاحتفال علي شطآنه عادات السقاية والري, عادات البذر والزرع والحصاد, عادات الطعام, عادات التبادل والمقايضة والبيع والشراء- عادات ركوب النهر والصيد من مياهه, أم عن فنون الأدب الشعبي فالأمر لا يتوقف عند أنواع من الحكايات مثل( حكايات الجنياتfairytales)- عروس النهر بقايا الأساطير الأشخاص الغرقي السفر العشاق الشعر الشعبي وما يضم من فنونه: الموال المربع النميم نعناع الجنينة الواو.. إلخ, والأمثال الشعبية التي تتعلق بالنيل, ويمكن أن نرصد منها عدة أمثال وعبارات مثلية مأثورة تتعالق بالشهور القبطية نذكر منها: هاتور أبو الدهب المنتور- بابه زرعه يغلب النهابه- مسري تجري فيه كل ترعه عسره- أبيب طباخ العنب والتين- بؤونه فلاق الحجر- بشنس يكنس الغيط كنس- برمودة دق بالعامودة- برمهات روح الغيط وهات- أمشير يقول للزرع سير- طوبه يخلي الصبية كركوبة- كياك صباحك مساك, ولا يقف الأمر عند حد المثل الشعبي لكننا سنري النيل وتجلياته في نداءات الباعة وفي المعتقدات الشعبية التي تتجلي في ذكر الأولياء وعادات الطعام. وكما يرتبط النيل بالفنون الشفاهية فإنه يربطنا بفنون الحركة والموسيقي والتشكيل لذا يستدعي أنواعا من الرقص الشعبي الألعاب الشعبية فنون التشكيل الشعبي, كما يتجلي في عناصر الثقافة المادية من حرف تقليدية( الفخار الحصير العمارة الشعبية. إلخ) ومهن متوارثة: الصيد البناء الفلاحة الرعي. إلخ, وإذا انتقلنا من إبداع المصريين الشعبي إلي المبدعين الأفراد, فرصدهم يحتاج لتتبع علمي فاحص, وهو ما يمكن رصده بإيجاز في رباعية من أبدع ما كتب الشاعر الكبير صلاح جاهين حين يبصرنا بالعلاقة بين حال النيل وتاريخه المتطاول في' نحت الصخور' للتأكيد علي الجدية والمكابدة, هذه المكابدة التي استمرت ملايين السنين, وهو يحددها بالشهور القبطية' مليون بؤونة' و'ألف مليون هاتور', وهي الشهور التي يستخدمها الفلاح المصري حتي اليوم: كام اشتغلت يا نيل في نحت الصخور مليون بؤونة والف مليون هاتور يا نيل أنا ابن حلال و من خلفتك وليه صعيبه علي بس الأمور عجبي!!! لمزيد من مقالات مسعود شومان