إن المتأمل للمكون الثقافي المصري سيجده دون مبالغة سبيكة من عناصر منتخبة بعد أن صهرت في آتون حضارتها التي شكلها وعي الإنسان المصري, فالراقات الثقافية المصرية قد تداخلت. بل تعشقت حتي صارت سبيكة مصرية صهرها العقل الجمعي المصري لنمسك بجوهر الشخصية المصرية التي استطاعت أن تثبت ملامح هويتها لتعلن لكل غاز أو محتل أو مختل أو فاتح أو طامع أو غبي أن شخصيتها وشخوص أبنائها الحقيقيين لا المدعين ولا المرتمين في أحضان الغرب أو دعاة ثقافة العصور الوسطي, أو جهال كل العصور من الدوجمائيين- لن يمحوها أي كائن أو أية جماعة سياسية أو دينية, أو أية سلطة مركزية داخلية أو خارجية, فما أكثر ما مر علي مصر من غزاة وطامعين وبرابرة متخلفين, ومتحجرين يعيشون في كهوف الماضي ويختارون منه ما يعيق الحياة, وهم ينظرون للماضي بقدسية وللراهن بانتهازية وللمستقبل بأنانية جاهلة تدعي لنفسها الحقيقة, ولكن بقي التماسك الثقافي المصري متجليا في مظاهر متعددة نراها بجلاء في كل ما يتعلق بدورة الحياة بداية من الميلاد مرورا بالزواج وانتهاء بالموت وما يتعلق بكل عنصر من هذه العناصر من حيوات وإبداعات وسلوك, الأمر الذي جنب مصر طوال تاريخها الصراع, واستمر نهر التجانس منسابا في نعومة آخذا طبيعة النهر, محققا استقرارا نسبيا يعمق شعور الشخصية بأنها صارت أكثر تكاملا مع محيطها الثقافي, ومع تكرار الأنماط السلوكية والتعبيرية القديمة والجديدة في انسجامها مع روح الثقافة فإن قيم الفرد يتم دعمها بهذه الروح التي تتسم بملامح منسجمة قائمة علي التسامح والتناغم والتجاور, بل والتداخل بين الراقات الثقافية لتصير سبيكة متحدة من العناصر المنتخبة والمنتقاة عبر الأزمنة, فحين نتأمل أغنية شعبية يرددها معظم أبناء المصريين وهي: ياطالع الشجره.. هات لي معاك بقره.. تحلب وتسقيني.. بالمعلقه الصيني.. والمعلقه انكسرت.. يا مين يربيني.. رباني عبد الله.. وانا زرت بيت الله.. لقيت حمام اخضر.. بيلقط السكر.. إلخ, هكذا تتجلي شجرة الخلد لتحمل بين فروعها مزيج العناصر, وكأنها طراحة لأبقار ترضع المعرفة/ الخير/ الحق/ الجمال, ولما لا وهي ليست بقرة أسطورية كما يدعي البعض, أو خيالا شعبيا شطح عن مجراه المعتاد, إنها حتحور ربة السماء التي أرضعت حورس. وقد كانت ربة للأمومة والموسيقي والبهجة, هكذا تقيم الجماعة الوصال بين الدين والسعادة, لتواصل البحث عن الحق حينما ينكسر الوسيط' المعلقه انكسرت', فيكون الملجأ إلي عبد الله, وزيارة بيت الله دون تحديد لطبيعتهما, لكنهما يتحددان في الدين برقة مداخله وحنوه كما تراه الجماعة, وكلما طالعت الوجوه, الأبنية, الأغاني الشعبية, العادات والتقاليد, موالد الأولياء والقديسين ستجد روحا مصرية تستنهض العروق السحيقة في جوهرها لتعلن عن وجودها الخاص الذي ينماز عن أقرانها, ومالها من قرين, وسنجد امتدادا ووصلا بين ظاهرة الآلهة المحلية والأولياء والقديسين والاحتفال بهم حتي الآن; الاحتفالات التي كانت أعيادا للمصريين وحلبات لاكتشاف المواهب وإعلاء قيمة الفنون, فضلا عن الجوانب السحرية والاعتقادية, ناهيك عن البهجة والترويح وما يحوط هذه الظاهرة المصرية من جوانب اقتصادية, وقد تعرضت هذه الظاهرة لمناوشات وتضييق بل وحروب صغيرة, هي في النهاية ليست حربا للمولد وما يتضمنه, لكنها معاول هدم في البناء الشامخ للهوية المصرية, ولظاهرة مصرية تمثل جماعا لمنظومة القيم وتجمعا شعبيا يمثل أفراحا للفقراء والأغنياء, للعامة والصفوة, كلهم يجتمعون بحثا عن القيمة التي أرادوا عولمتها وازاحتها خارج الزمان والمكان في صور عروض استهلاكية تصدرها الشركات عابرة القارات. إننا لا نندهش حين نقرأ كلام' مكفرسون' الاسكتلندي المتيم بمصر راصدا احتفال المصريين بمولد سيدي إسماعيل الإمبابي الذي مات ودفن في زوايته علي ضفاف النيل في' إنبابة/ إمبابة' وهو المولد الذي لا يتبع التقويم الإسلامي, لكنه يقام في العاشر من شهر بؤونة وهو التاريخ الذي كان المصريون القدماء ينتظرون فيه الدمعة الغامضة لإيزيس حزنا علي أوزوريس, وتسمي هذه الليلة ليلة النقطة وفيها يذهب البعض للتبرك والدعاء ورغم اختفاء بعض هذه الممارسات فإن ليلة القدر تمثل جسرا للقاء الأرض بالسماء, لقد كان عيد إيزيس عيد قوارب ولم تكن إيزيس راعية المراكبية ولم تعلمهم اختراعها للملاحة كذلك سنري في مولد الإنبابي النهر يمتلئ بالفلايك, وحين تقرأ الحكايات الشعبية الدائرة حول أوزوريس وماري جرجس والحسين ستجد تشابها كبيرا, الأمر كذلك في الحكايات الشعبية والأساطير الدائرة حول إيزيس والعدرا والسيدة زينب, فالمصري يرتشف رشفة من ماضيه ليصلها برشفة من الحاضر رابطا الروح المصرية في إبداعه الشفوي أو صناعاته وحرفه, فهو يردد المثل الشعبي' لا كاني ولا ماني ولا دكان الزلباني' فبذكاء المنسجم مع ثقافته لم يقل ولا دكان الفسخاني والقافية ماشية, لكنه يدرك بوعي تفاصيل المعني وحبكته والصلة بين الماضي والحاضر. إن عناصر السبيكة المصرية مجموعة لا محدودة من الراقات الثقافية, والراقات هنا لا تعني التراتب, لكنها تعني التماسك والتداخل والانسجام, ولعل التراث والمأثور الشعبي أخد أهم مكونات هذه السبيكة التي أراد البعض واهما بيعها بأرخص الأثمان, ظنا أنها يمكن تباع, ومن يستطيع بيع مخزون الصدور وإبداع الشخصية المصرية علي مر العصور, من يستطيع بيع العقل الجمعي الذي يحفظ سمات وملامح الأرض والإنسان, لا أحد يستطيع أمام عبقرية مصر المبتلعة لكل وافد والفرازة لكل لون وصنف والهاضمة لكل ما تشتهي من عناصر لتفرزها من جديد كعلامة في جداريتها التي ترسمها ويواصل رسمها الأبناء والأحفاد عابرين للأزمنة والكبوات. لمزيد من مقالات مسعود شومان