أكدنا في المقال السابق أننا نتجاوز مرحلة التقعيد والتنظير إلي ميدان التطبيق العملي, وفي هذا المقال نعطي أنموذجين عمليين للتجديد في تناول الموضوعات التي تشغل بال الوطن والمواطن, بخاصة في خطبة الجمعة, حيث تدور خطبة الجمعة اليوم حول موضوع: حرمة التلاعب بأقوات الناس وحاجاتهم الأساسية. ذلك أن العلماء يقررون أنه حيث تكون المصلحة فثمة شرع الله, فقضاء حوائج الناس, وتحقيق احتياجاتهم الضرورية والأساسية واجب شرعي ووطني, قد يكون واجبا عينيا, وقد يكون واجبا كفائيا, وفق الظروف والمسئوليات والمواقع والقدرة علي الإسهام في حل المشكلات. وقد نهي الإسلام عن كل ألوان الغش والاحتكار, وتطفيف الكيل أو الميزان وبخس الناس حقوقهم أو بعضها, فقال رسولنا( صلي الله عليه وسلم): من غشنا فليس منا, وقال( صلي الله عليه وسلم): من غش أمتي فليس منا, وقد نهي( صلي الله عليه وسلم) عن كل ألوان الاحتكار و اكتناز الطعام قصد شحه وإغلاء ثمنه علي الناس, فقال( صلي الله عليه وسلم): من احتكر حكره يريد أن يغلي بها علي المسلمين فهو خاطئ وفي رواية قد برئت ذمة الله منه, وفي ذلك كله ما يؤكد حرمة استغلال حوائج الناس أو التلاعب بأقواتهم وحاجاتهم الأساسية, سواء في طعامهم كما يحدث ممن يتدخلون لإحداث الأزمات في الأسواق, أم فيما لا تقوم حياتهم الشخصية أو الاقتصادية إلا به كالتلاعب في منظومة توزيع اسطوانات الغاز أو الأسمدة التي تكاد حياة الفلاحين وزراعتهم تتوقف علي توفرها وسهولة الحصول عليها, أو التلاعب في سلع حيوية كالأدوية, أو الحديد, أو الأسمنت, ونحو ذلك من الأزمات التي لا نكاد نخرج من واحدة منها حتي نقع في الأخري, علي أنني لا أنحي باللائحة علي مجرد الاحتكار, إنما هناك مشكلات وحلول ينبغي أن نهتم بها كل في نطاق اختصاصه. وعلي قدر ما حذر الإسلام من هذا التلاعب فإنه جعل جزاء قضاء حوائج الناس عظيما عند الله عز وجل فقال( صلي الله عليه وسلم): من فرج عن مسلم كربة فرج الله عز وجل عنه كربة من كرب يوم القيامة, والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه, وقال( صلي الله عليه وسلم): إن لله عز وجل عبادا اختصهم بقضاء حوائج الناس حببهم في الخير وحبب الخير إليهم, إنهم الآمنون من عذاب الله يوم القيامة. الأنموذج الثاني: خطبة الجمعة المقبلة التي تدور حول موضوع حوائج الفقراء قبل عمرة الأغنياء.. خطوة علي طريق التكافل الاجتماعي وهو مرتبط أشد الارتباط بالموضوع السابق, فمحور الموضوعين وبؤرة اهتمامهما هو قضاء حوائج الناس, بخاصة الكادحون والأشد فقرا واحتياجا. حكم العمرة: يختلف الفقهاء حول حكم العمرة بين الوجوب والندب, والثاني أرجح, وبما أن الفرض المجمع عليه هو الركن الخامس من أركان الإسلام وهو الحج, فإن المرجح لدينا أن يكون الحرص الحقيقي علي أداء الفريضة, ويأتي أداء العمرة تابعا ومتلازما معها. علي أن حديثنا هنا إنما يتوجه في أساسه إلي من يحجون ويعتمرون مرات ومرات تطوعا وتنفلا مع احتياج بعض أهليهم وجيرانهم وبني وطنهم إلي الطعام والكساء والدواء, واحتياج أوطانهم إلي مقومات أساسية لا تستقيم حياة أبنائه إلا بها, بخاصة في مجالات الصحة والتعليم, وهؤلاء نذكرهم بأمرين: أولهما: أن قضاء حوائج الناس والقيام بمتطلبات حياتهم ليس مجرد نافلة, إنما هو واجب شرعي ووطني, يقول نبينا( صلي الله عليه وسلم): والله لا يؤمن, والله لا يؤمن, والله لا يؤمن, من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم, ويقول الحق سبحانه: أرأيت الذي يكذب بالدين. فذلك الذي يدع اليتيم. ولا يحض علي طعام المسكين) الآخر: أن قضاء حوائج الناس مقدم علي ألف حجة وحجة بعد حجة الإسلام التي هي حجة الفريضة ومن ألف عمرة نافلة, فالأول الذي هو قضاء حوائج الناس إصلاح للفرض والمجتمع, والآخر الذي هو حج النافلة وعمرة النافلة لا يخرج عن دائرة صلاح النفس, والإصلاح مقدم علي الصلاح, وقد يصير ذلك ضروريا ومحتما في مثل الظروف الاقتصادية التي نمر بها.كما أن الأول مصلحة عامة والثاني يدخل في دائرة المصالح الخاصة, والعام مقدم علي الخاص, والأعم نفعا مقدم علي محدود النفع أو قاصر النفع. والأول الذي هو قضاء حوائج الناس لا يخرج عن كونه فرض عين أو فرض كفاية, ولا شك أن الفرض والواجب عينيا كان أم كفائيا مقدم علي سائر النوافل, لا علي حج النافلة وعمرة النافلة فحسب. وعليه فإنني أدعو جميع الأغنياء والقادرين إلي توجيه أموال العمرة هذا العام إلي قضاء حوائج الناس, ومتطلبات الوطن التي تتوقف عليها حياتهم. لمزيد من مقالات د . محمد مختار جمعة