حرب علي الإرهاب, قوي ظلامية داخلية وخارجية لا تريد لبلد أن ينهض, تطاحن بين فرقاء بالأمس كانوا شركاء, ضحايا وشهداء من هنا ومن هناك, صراع من أجل دفع عجلة الاقتصاد وإنجاز الاستحقاقات السياسية لتحقيق الاستقرار في ظروف هي الأقسي والأصعب علي كل المستويات. كثيرون أصابهم الإحباط, وبعض أوشك أن يفقد الأمل, وقليل جدا هم المتفائلون, هكذا المشهد في مصر الآن, بلد أنهكه كل ما سبق فبدا كالطير الجريح, ولكن تبقي حقيقة ساطعة هي أنه وبالرغم من ذلك كله فإن مصر مازالت وستبقي محتفظة بوسائل قوتها الناعمة التي تراكمت لديها منذ قرون طويلة من الحضارة والثقافة والمدنية, وستخرج كالعنقاء من وسط كل هذا الرماد وستحمل بقايا جسدها القديم إلي مذبح الشمس في هليوبولس لتولد من جديد. في مقدمة تلك التجارب الشبابية عرض في' مسابقة المهر العربي', فيلم أوضة الفيران, والذي يعد عودة إلي مدينة الإسكندرية, تلك المدينة التي شهدت العرض السينمائي الثاني في العالم, بعد أن أقام' الأخوان لوميير' عرضهما الأول في باريس الإسكندرية' الكوزموبوليتان', المدينة التي احتضنت حضارات وثقافات متنوعة, تتصدر المشهد السينمائي المصري بتلك التجربة الوليدة لعدد من شباب المخرجين, هم ستة, تخلوا عن أنوية المبدع, وقرروا العمل سويا منذ3 سنوات, وأنجزوا سبع قصص قصيرة كان من المفترض أن يتم تحويلها إلي أفلام قصيرة, ولكن يبدو أنه خلال مراحل العمل والتحضير, تم الاتفاق علي صياغة التجربة بأكملها لتتحول الي ست قصص, تجمعهما تيمة واحدة وهي الخوف, شخصيات تقطن مدينة الإسكندرية, لا يعرفون بعضهم البعض, ولا يلتقون أبدا. السيدة التي تستيقظ لتشرب الماء, وتربت علي زوجها في محاولة لإيقاظه مرددة' مش هتبطل تسحب الغطا كله, ولكنه لا يرد, وتكتشف وفاته, ومنذ تلك اللحظة أصبحت تخشي من النوم ليلا, صار ليلها نهار ونهارها ليل, تسهر طوال الوقت, تجلس إلي الشباك وما بين احتساء القهوة, أو الشاي, ومراقبة الشارع, شاب يلعب كورة, الكناس, وغيره من الشخصيات. وتبدأ في اكتشاف نفسها في هذا العالم الليلي, فبدا خلفها طفلة محبوسة, كانت تخاف وتخشي من أي شيئ, لذلك لا تتردد في أن تمارس تفاصيلها الصغيرة تلقي بمشبك غسيل أمام المارة, وتختفي خلف الزجاج ضاحكة, وأبناؤها لا يرق لهم ما يحدث, وينفعل عليها الابن, وهي لا تستطيع الإنصات إليه, فالخوف أكبر منها. وهناك الطفلة الصغيرة, التي تعيش مع جدتها الداعية الإسلامية, والتي يتوافد عليها النساء, من أجل أن تحفظهم القرآن, أو تخطب فيهم, واعظة ومرشدة, عن عذاب القبر, وكيف تكون المؤمنة الصالحة, وحدها الصغيرة لا تخشي مايبث في قلوب الآخرين من رعب, لذلك تتجرأ علي الشيخ الذي يدخل إلي الجامع وتلقي عليه ما تأكله من' بوزو, وحلويات', بل تركل جدتها أيضا في قدمها المصابة, وكأنها تطلب منها, أن تشعر بألم الآخرين وألا تكتفي باخافتهم, حتي لا تتحول الي أمنا الغولة. مشهد موت الجدة, وهي ممسكة بيد الفتاة والبنات تجذب يدها بقوة, وكأنها تحاول الهرب, وشاب آخر يعيش حياته مابين الإسكندرية والقاهرة, يأتي عندما يعلم, بمرض والده بالسرطان, الأب يقترب من الموت, والابن لا يعرف والده جيدا كان بينهما مسافات, لا يستطيع واحد منهم أن يأخذ زمام المبادرة بقاعها, صمت تام يسيطر عليهما إلي أن يذهب الشاب لأصحاب عمه, بعد إيداع والده في المستشفي, ويخبره عمه كيف كان رد فعله هو ووالده عندما توفي الجد, وبدون حوار مطول أو ثرثرة لا طائل منها يضع الشاب بجوار والده كل ما يحبه, ويدير له شريط يحمل صوت أم كلثوم, كما يترك له السيجارة والتي قد تكون الأخيرة للرجل, فهل جعلهما الموت يقتربان من بعضهما, ويتخطي الشاب حاجز الخوف من والده. وعرض أيضا في' مسابقة المهر العربي للأفلام الوثائقية' فيلم' موج' للمخرج, أحمد نور, الذي ينتمي إلي مدينه السويس, تلك المدينة الباسلة والتي كانت رمزا للمقاومة, وفيها أيضا اندلعت شرارة ثورة25 يناير, ونور في هذا العمل المتميز والثري بصريا, يبدو كمن يرصد حالة مصر ويحمل حنينا إلي السويس' بلد الغريب', أو مدينة الغربان كما كانوا يطلقون عليها, حاملا تساؤلاته عن مصر الحاضر والماضي والمستقبل, متخذا من مولد' حلا' ابنة شقيقته وأول حفيدة في العائلة بداية لطرحه للكثير مما يدور داخله, وفي تلك المرحلة الحرجة من تاريخ مصر, ولجأ نور إلي معادلات بصرية متنوعة, ومختلفة في بنائه للفيلم, فهو لم يكتف بسرد تاريخ المدينة, بشكل يشبه التحقيق التليفزيوني, ولكنه دمج مابين الرسوم المتحركة, والتي روي من خلالها, بعضا من ذكريات الطفولة وحياته في المدينة والشهادات الحية, معتمدا علي الحكي, في شريط الصوت, وقسم بناء الفيلم الي عدة موجات أطلق علي الأولي, من العمق وهو الجزء الذي امتزجت فيه الرسوم المتحركة مع الحكي, ليقدم لنا المخرج مدينته ورموزها من شعلة شركات البترول لقناة السويس, وجنينة الفرنساوي, وكيف تم القضاء علي أكثر من100 ألف غراب بأمر من المحافظ, والذي استعان بمنتخب الرماية المصري. وبسلاسة شديدة ينتقل نور إلي الموجة الثانية والتي أطلق عليها الدوامة, وهي دوامة الفقر والفساد التي ابتلعت كل شيء حتي البشر, الذين صاروا يعيشون في بؤس, لقطات ذكية وسريعة لشهادات سكان المدينة, الموجة الثالثة جاءت بعنوان' مد', وفيها حكي المخرج, تاريخ إنشاء قسم الأربعين, والذي كان ملجأ للأيتام افتتحه الملك فؤاد, وحوله فاروق الي قسم شرطة, وهو القسم المعروف بسمعته السيئة, ومنه انطلقت الشرارة الأولي لثورة, يناير, أما الموجة الرابعة فتحت مسمي' جرد', وفيه يحاول المخرج أن يجرد كل ما مر من تحولات في الأعوام الثلاثة الأخيرة, والتحولات الدراماتيكية التي شهدتها تطورات الأحداث, مابين تشاؤم البعض وتفاؤل الآخرين ممثلين في واحد من أهم رموز المقاومة. نور مخرج واعد استطاع أن ينسج العديد من التفاصيل, وينطلق من الخاص إلي العام بسلاسة شديدة, ويملك أسلوبا خاصا سيكون من السهل بعد ذلك أن تميزه, خصوصا وأن قليلا من المخرجين الذين استطاعوا أن يجعلوا من الفيلم التسجيلي مادة جاذبة تتسلل هكذا بنعومة وتدخل في عمق المشاكل.