نرجو أن يكون الدستور الجديد أخيرا وليس آخرا. لا نتمني أن تشكل لجنة جديدة من مائة عضو أو خمسين أو أي عدد كان لكتابة دستور آخر. والنون هنا في نرجو ونتمني أظن أنها تعبر عن رأي أغلبية المصريين المنتظر أن يدعموا الوثيقة الجديدة عندما يجري الاستفتاء عليها. ليس لأن الناس تعبت وملت وتريد الخلاص بأي شكل. وإنما لأن الوثيقة بشكل عام جيدة يمكن البناء عليها والانطلاق منها والتحسين فيها. وبرغم ما يرد عليها من مآخذ إلا أنها تستحق الموافقة ويجدر التصويت عليها بنعم. تستحق أن تكون دستورا أخيرا وليس آخرا. ولا أقصد بالدستور الأخير أننا كتبنا دستورا نهائيا يبقي أبد الدهر. فليس في الوجود كله دستور بهذا المعني. فما من دستور يكتب إلا ويجري تعديله أو استبداله. نعم هناك دساتير دائمة وأخري مؤقتة. لكن الدستور الدائم ليس خالدا وإنما هو الذي لا تحدد فيه مدة زمنية بعينها لسريانه مثلما هو الحال بالنسبة للدستور المؤقت. وأغلبنا يذكر أن دستور1971 كان يسمي بالدستور الدائم. لكنه كما نعرف لم يدم ولم يكن أخيرا. ما أقصده بأخيرا أن يكون الدستور الجديد خاتمة صحيحة لمرحلة انتقالية صعبة بما لا يدعو إلي الحاجة إلي كتابة دستور آخر. وأن يكون عند تطبيقه فاتحة قوية لسلسلة إصلاحات جذرية ومحاسبات رادعة تحقق ما طالبت به ثورتا مصر من تطهير لما تراكم من فساد ومحاسبة عادلة لمن أجرم في حقق الوطن والمواطنين. والمعروف أنه ما من وثيقة دستورية تكتب إلا ويكتب لها خصوم يشككون فيها حتي لو كانت أفضل من سابقتها. فالدساتير تبني علي التوافق. والتوافق ليس إجماعا وإنما أعلي نقطة تراض بين مختلف الرؤي والتفضيلات. وتلك بديهية نسيها من كتبوا دستور2012 وتذكرها من أعدوا الوثيقة الجديدة. وقد كانت تجربة2012 وستظل درسا يجب أن تتوقف عنده كل أطياف اللون السياسي في مصر. فقد صور الإخوان وثيقة2012 علي أنها خير خاتمة للمرحلة الانتقالية بينما كانت في الحقيقة سببا لامتدادها وتعقيدها وبابا للشقاق والفراق حتم لاحقا إعداد دستور آخر. لم يعش دستور2012 إلا لأقل من سبعة أشهر. كانت خبرة سيئة ضمن تجربة مصرية طويلة مع الدساتير تقدم عبرا ودروسا يجب الاتعاظ بها. فمنذ أن صدرت اللائحة الأساسية في فبراير1882 وحتي انتهاء لجنة الخمسين من مشروع الدستور الجديد, عرفت مصر خمس عشرة تجربة دستورية متنوعة ما بين إعلانات دستورية ودساتير جديدة والعودة إلي دساتير سابقة. وهو ما يفيد بأن مصر شهدت في المتوسط علي مدي131 سنة نقلة دستورية جديدة كل ثمانية أعوام وسبعة أشهر. بالطبع كان نصيب بعض هذه التجارب أفضل من غيرها مثل دستور1923 الذي سري مرتين منفصلتين الأولي من1923 إلي1930, والثانية من1935 إلي1952 بمجموع أعوام بلغ اثنين وعشرين عاما. لكن يبقي الملمح العام وهو أن مصر لم تشهد فترات طويلة من الاستمرار الدستوري اللهم إلا لفترتين, كان الاستمرار فيهما أقرب إلي الغصب والإذعان منه إلي الرضاء والاطمئنان. الفترة الأولي امتدت لإحدي وأربعين سنة ما بين1882 إلي1923 وكانت محكومة بوجود الاحتلال الانجليزي وجمود الحياة السياسية إلي أن انفجرت ثورة1919 التي أتي دستور1923 الليبرالي كثمرة عظيمة لها. والفترة الثانية استمرت أربعين عاما من1971 إلي2011 واعتمد بقاء الدستور فيها علي القبضة الأمنية للدولة وليس علي رضاء الناس إلي أن خرجوا محتجين في25 يناير قبل ثلاث سنوات. والاستمرار الدستوري ليس علامة علي الاستقرار الدستوري أو مؤشر لصواب الوثيقة التي تنظم شئون الحكم. فضلا عن أن الاستقرار الدستوري لا يقاس بطول المدة التي يعيشها الدستور, وإنما بقدرته علي الاستجابة لمطالب الناس والتعبير عن تطلعاتهم وتمكين أحلامهم بتسجيلها في وثيقة جماعية عليا ملزمة تحاسب مؤسسات الدولة بموجبها إن هي قصرت في احترام أو تنفيذ ما ورد فيها. والدساتير التي تستجيب للتطلعات البشرية وتتماشي مع الفطرة والبديهة تعيش طويلا وتصلح مجازا لأن تسمي أخيرة إلي أن يطرأ من الظروف ما يستدعي إدخال تعديلات عليها لتقويها وتطيل عمرها. الدستور الأمريكي مثلا باق منذ224 سنة, وبعض التعديلات التي أدخلت عليه, مثل التعديل رقم27, تم بعد203 سنوات من تطبيقه. ودستورنا الجديد, ولكي لا يخدع أحد نفسه, لن يصل إلي مثل هذه الأرقام. لكنه يبقي مشروعا جيدا وقد يكون أفضل ما استطاعت لجنة الخمسين أن تتوصل إليه في ظل الظروف الحالية وأيضا أفضل مخرج من الظروف الحالية. يستطيع أن ينهي المرحلة الانتقالية فيكون بهذا المعني أخيرا وأفضل بلا شك من سابقه الذي كان دستورا آخر خلال تلك المرحلة. لكن الدستور الجديد سيبقي برغم التأييد المتوقع أن يحصل عليه في حاجة بعد أن ينتشلنا من عناء المرحلة الانتقالية إلي تعديل حتي يصل إلي مستوي تطلعات عالية ما زالت تعتمل في نفوس المصريين بمن فيهم أعضاء في لجنة الخمسين نفسها قالوا إنهم تمنوا لو أنهم استطاعوا أن يأتوا بأفضل منه. وهذا ليس عيبا أبدا. فالمصريون اليوم أوعي بدساتير أخري متميزة موجودة حول العالم, وأوعي أكثر بتجاربهم الدستورية القديمة. ولا شك في أنه سيكون لديهم في2014 دستور أفضل مما كان لديهم في.2012 عليهم أن يستثمروه ولا يشوهوه حتي يأخذوا السياسة بالتدريج وبإيجابية من الشارع ليعيدوها من جديد إلي المؤسسات لتكتب نهاية للمرحلة الانتقالية. لكنها لن تنتهي باليقين لمجرد أن الدستور قد كتب أو استفتي عليه وإنما عندما يقتنع المواطن بأن مؤسسات الدولة عرفت أدوارها ووظائفها وأن حقوقه المدونة في الدستور ليست محلا للمساومة يعبث بها متسلط أو يعتدي عليها متجبر. تماما كما كتب أمير الشعراء شوقي في1926 ممتدحا دستور مصر الليبرالي وقتها قائلا: الحق أبلج والكنانة حرة والعز للدستور والإكبار.. الأمر شوري لا يعبث مسلط فيه ولا يطغي به جبار. كلية الاقتصاد والعلوم السياسية لمزيد من مقالات أبراهيم عرفات