تعد السير الشعبية واحدة من أهم فروع الأدب الشعبي والتي تحظي باهتمام بالغ لدي الجماهير ودارسي الثقافة الشعبية وذلك لما تمتلكه من خصائص ومقومات تكفل لها الانتشار داخل النسق القيمي للجماعة الشعبية. وتعد الهلالية أشهر السير الشعبية العربية التي لاقت قبولا واسعا داخل البلاد العربية, فالكثير من تلك البلدان كان مسرحا لأحداث السيرة من الجزيرة العربية لتونس الخضراء مرورا بمصر وخصوصا الصعيد الذي احتضن تلك السيرة وتغني بها شعراؤه ورددتها خلفهم أجيال متعاقبة عبر الحفظ والرواية شعرا وسردا, مغناة علي الربابة أو الطار فقط أو حتي القيام بسرد أحداثها نثرا, ولعل الصعيد بطبيعة تكوينه من قبائل عربية تري من هذه السيرة جزءا من تاريخها المباشر, والأهم من ذلك أنها تحتوي منظومة القيم الحاكمة التي تتبناها هذه الجماعة وبالتالي فهي تحافظ عليها عبر ترديد السيرة وتمثل مواقفها وأحداثها في مختلف نواحي الحياة التي تمر بها, لذا تقوم الجماعة الشعبية بانتخاب بعض أبنائها توكل إليهم الحفاظ علي هذه السيرة وترديدها ونقلها من جيل إلي جيل, هؤلاء الذين تنتخبهم الجماعة يجب أن يتحلوا بخصائص معينة بداية من قدرتهم علي الحفظ السريع والقدرة علي إنشاء الشعر وفق النسق الشعبي السائد والارتجال السريع بما يتوافق مع طبيعة الموقف والأحداث بالإضافة لجمال الصوت وقدرته العالية علي التعبير وفق الحدث داخل السيرة وغيره ثم الحضور الخاص وقدرته علي جذب الانتباه لما يرويه, هنا تتبني الجماعة هذا الشاعر أو ذاك وتعتبره المعبر عنها فهو ابنها ونتاج تربيتها والحامل لمنظومة قيمها والقادر علي التعبير عنها بجمال وإبداع عال. لعل جابر أبو حسين واحدا من أشهر الشعراء الشعبيين الذين تغنوا بالسيرة الهلالية ليس في صعيد مصر بل في جميع أنحائها والوطن العربي كله, وربما يرجع الفضل في ذلك للشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي الذي قدم مع جابر أبو حسين عددا كبيرا من الحلقات الإذاعية عبر الإذاعة المصرية إبان سبعينيات القرن الماضي مما كفل لأبو حسين هذه الشهرة الممتدة, لكن ذلك لم يكن ليتم لولا قدرة هذا الشاعر الفذ وشهرته داخل الصعيد الأوسط قبل لقاء الأبنودي به. وعن حياة هذا الشاعر وتكوينه الاجتماعي والثقافي وليالي الهلالية التي كان بطلها وراويها يدور كتاب:' السيرة الهلالية في صعيد مصر: هوميروس العرب جابر أبو حسين'. لأحمد الليثي والصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن سلسلة الدراسات الشعبية ليلفت الانتباه وبشدة حول المؤدي/ الفنان والذي غالبا ما تهمله الدرسات الشعبية والنقدية لصالح الموضوع وطبيتعه وهو هنا السيرة. يعيد الليثي في هذا الكتاب الاعتبار لهذا الشاعر الكبير بما يستحق بتسليط الضوء علي حياته وكيف تلقي السيرة و طريقة أدائه وما أضافه لهذا المجال وتتبعه عبر الليالي الطويلة, ليس هذا فحسب بل تعدي لأثره وتأثيره فيمن تلاه من رواة السيرة إلي تلاميذه ومن تربي في حجره وبين يديه: حفظا للسيرة و أداء. جابر أبو حسين(1916 1981 م) المولد بإخميم بمحافظة سوهاج التي فر منها للإسكندرية بسبب رفض أحد أبناء عمومته لسلوكه طريق شعراء الربابة والمداحين ليعود إليها وهو في الثلاثينيات من عمره وقد امتلك العزم والتصميم علي السير في طريق السيرة بعد أن حفظها عبر الكتابات الشعبية وتعلم فنون الأداء في الاسكندرية, لكن كان عليه أن يعيد صياغة السيرة وفق النسق الشعري الذي تتبناه الجماعة في الصعيد من' مربع' و'واو' و'موال' حتي يكون متوافقا مع جماعته, وهنا تتبدي عبقرية جابر أبو حسين في قدرته الهائلة علي صياغة السيرة في لغة شعرية سهلة وبسيطة وقوية ليس بها أي قدر من الابتذال أو التهاون وهو ما كفل له التفرد فيها فجاء إليه عشاق السيرة من كافة البلاد يطلبونه لإحياء لياليها لديهم بقوة صوته وتلويناته الباهرة وعزفه المتفرد علي الربابة متوافقا مع أحداث السيرة ومتطابقا مع أجوائها والحالة النفسية والمزاجية لأبطالها, مما يحسب له أنه لم يتحيز لبطل من أبطال السيرة علي حساب بطل آخر كما هو الحال لدي بعض الشعراء الذين ينحازون للهلالية علي حسب الزناتية والعكس حسب ميول جمور المستمعين. يحاول أحمد الليثي في كتابه أن يطابق بين الرحلة الهلالية ورحلة جابر أبو حسين في الحياة عبر تغريبته في بداية شبابه ووفاة أحد أبنائه الذي استشهد في حرب أكتوبر وزيجاته المتعددة وطريقة الأداء التي يتمثل فيها الأبطال كما أنه يورد حكاية عن لقاء جابر أبو حسين بالخضر كما حدث مع أبوزيد أي أنه كان( مقطب) وهي الحكاية التي نفاها أحد أبناءه فيما بعد حيث قال جابر أن ما فيه هي موهبة من الله. ويفرد الباحث في كتابه فصلا للفنون الشعبية القولية في محافظات الصعيد الجنوبية وهو ما استفاد منه أبو حسين في صياغة السيرة, كما يورد روايات تلامذته والرواة الذين التقي بهم, مما يجعل الكتاب بحثا مدققا وقيما يستحق الكثير من التقدير. لمزيد من مقالات احمد ابو خنيجر