يطرح أدب الشهادة تساؤلات عديدة حول علاقة الأدب بالواقع وبالتاريخ, ولهذا النوع من الأدب أشكال مختلفة فهو يجمع بين السيرة الذاتية, واليوميات, والريبورتاج الصحفي وكتابة التاريخ. وسنحاول تعريف هذا الأدب وتحديد الملامح المميزة له من خلال بعض النماذج لاستخراج مجموعة من الثوابت تكون نواة لصياغة تعريف علمي له. والشهادة مفهوم قانوني وتاريخي يحتل اليوم مكانا هاما في الفكر النقدي. فهل هو جزء من الواقع داخل النص الأدبي؟ أو صور تاريخية داخله؟ إن الكوميديا الإنسانية لبلزاك وثلاثية محفوظ ورأيت رام الله لمريد البرغوثي والحرب والسلام لتلستوي ولوحة جورنيكا لبيكاسو أو الأفلام التسجيلية عن حرب الجزائر أو حرب فيتنام أو11 سبتمبر تتضمن كلها شهادات. فإلي أي مدي يكون العمل الأدبي أو الفني شاهدا علي عصره؟ وما هي أشكال الشهادة ووسائل تحليلها لغويا وبنائيا وتاريخيا؟ الشهادة هي أن نقص حدثا, نؤكده, نوثقه, ندينه, ننقله, وتهدف الشهادة إلي النقل أكثر من التواصل فالشاهد يملك حقيقة أكثر من امتلاكه رأيا. والشهادة هي العلاقة بين الحقيقة ونقلها ولكن هل هي دائما صادقة؟.. يمتلك الشاهد حرية بناء شهادته وترتيب أفكارها وأحداثها.. يستطيع أن يتذكر أو ينسي واقعة ما وتضخيم أو تهميش حدث.. استبعاد أو إضافة عنصر من العناصر, فمشكلة الذاكرة تظل باقية لأنه يشهد علي حدث في الماضي القريب أو البعيد. ويعرف الشاهد تماما أن عليه أن يمتلك لغة تثير الاعجاب ومقنعة, فله أسلوبه الخاص وطريقة عرضه للأمور, وإعطاء قيمة لبعض التفاصيل أو علي العكس من ذلك الحد من أهميتها, فالشاهد العيني ينقل ما رآه وسمعه ولكن أيضا ينقل ما يعتقد أنه رآه وسمعه, فقوله يكون صدقا أو كذبا ولا نستطيع قياس المسافة بين الواقع وشهادته. سنستعرض ثلاثة أمثلة مختلفة للشاهد العيني في ثلاثة أنواع أدبية مختلفة: الحكايات الشعبية, الشعر والرواية. كثيرا ما نجد الراوي الشعبي داخل نصه ليصبغ عليه نوعا من الحقيقة فيقول بعد سرد واقعة ما: لقد كنت حاضرا وأكلت معهم وشربت وفعلت كذا وكذا.. هذا التواجد للراوي داخل النص كثيرا ما يكون في العبارات الاستهلالية أو الختامية أو خلال روايته لنص ما.. أما هدفه فهو جعل المستحيل ممكنا فالراوي الغائب يصبح حاضرا مرئيا كي تكون شهادته صادقة. وشعر المقاومة هو شعر شاهد علي حدث ويتحد فيه الحدث الخارجي والقدرة الإبداعية للشاعر. ويصبح الشعر شاهدا علي واقع يقودنا إلي أعماق الحقيقة. وهذا النوع من الشعر لا يمكن أن يكون مجرد وصف للحقيقة المؤلمة أو أن تكون وظيفته إخبارية فقط للتعريف بالجرائم التي ترتكب أو للإدانة والرفض. وهو مرتبط بالرؤية وليس بالخلق والإبداع. وللشاعر الفرنسي' اليوار' ديوان بعنوان( الشعر والحقيقة1942) وهو يكرر عنوان جوتة ولكن يضيف له تاريخ محدد هو.1942 فشعر المقاومة الفرنسي هو صوت بلد تحارب, وعبارتها للتعبير عن وجودها. ويصبح الشاعر شاهدا عينيا علي الأحداث فيقول الشاعر الفرنسي آراجون: أني لا أكتب أني أتحدث, أتحدث لأقول شيئا ما, هذا الشئ الذي يموت كثيرون دون أن يقولوه. فهذا النوع من الشعر يعكس الواقع الذي نعيشه ويقوم عليه ويستند إليه. الشهادة إذن هي أن نري ونعرف ونقول وإذا انتقلنا إلي آخر قصيدة كتبها نزار قباني من علي فراش الموت لوجدناها شهادة علي واقع عربي مؤلم:' لا تسأليني عن مخازي أمتي.. ما عدت أعرف حين أغضب ما أريد.. وإذا السيوف تكسرت أنصالها فشجاعة الكلما.. ليست تفيد.. لا تسأليني مرة أخري عن التاريخ.. فهو إشاعة عربية.. وقصاصة صحفية.. ورواية عبثية.. لا تسأليني إن السؤال مذلة وكذا الجواب مذلة'.. إلي آخر هذه القصيدة التي لا تحكي أحداثا معينة ولا تصور وقائع بذاتها ولكنها تظل شهادة تعبر عن واقع معاش. وإذا كان الياس خوري يقول: نحن نحول الحقائق إلي لا حقائق لأننا نكتبها', فإن أدب الشهادة يحول الأحداث إلي حقائق ليكتبها, فعندما يكتب الأبنودي في الموت علي الإسفلت: القصيدة توصف الدم الذكي ما تشيلش نقطة توصف الأم اللي ماتت بنتها قدام عينيها بس وصف وصف جيد.. وصف خايب وصف صادق.. وصف كاذب في النهاية.. كله وصف' نعم' فكله وصف' ولكنه ليس مجرد وصف ولكنها شهادة أي نقل لحدث.. لواقع.. لحقيقة ما.. رأيت قرأت سمعت' هو عنوان السيرة الذاتية للكاتب المغربي دريس شرايبي وهو عنوان له دلالته, حيث يقص الكاتب في سخرية أحداث الحياة الخاصة: أسرته, أصدقاؤه, حياته, والحياة العامة في بلده, ومدينته الجديدة حيث يختلط الخاص بالعام فأدب الشهادة في هذه الرواية ينتقل من المساحة الفردية إلي الجماعية وينتقل من الخاص إلي العام ولا يفصل بينهما. أما الكاتب الجزائري محمد مولسهول المعروف باسم نسائي مستعار كشفه مؤخرا وهو ياسمينا خضراء فكان ضابط في الجيش الجزائري وشاهدا علي الحرب المدنية والقتل وأحداث العنف ينقلها في رواياته. هذا الضابط المتقاعد يمتلك كثيرا من الأسرار عرفها عندما كان يخدم في الجيش الجزائري وهو متردد بين البوح بها والتزام الصمت:' ماذا أفعل؟ أصمت؟(...) بين كلمتين اخترت التي ستؤثر علي مستقبلي كروائي لكنها لن تثقل علي ضميري. وقد تكون الشهادة جماعية فتتعدد الأصوات في الرواية الواحدة, وقد يستعير الكاتب صوت شخصية من شخصيات الرواية ليقدم شهادته ولكن سواء كانت واقعا أم خيالا, فردية أم جماعية, إرادية أم لا إرادية, كلاما أم صمتا, حقيقة أم كذبا فالشهادة تبقي سردا ينقل الواقع ويقدم الحقيقة.. كانت هذه محاولة سريعة لتعريف هذا النوع من الأدب ولا أقول هذا النوع الأدبي فأدب الشهادة لم يصبح بعد نوعا أدبيا مستقلا بذاته ولكنه جدير بالدراسة والبحث. لمزيد من مقالات د.غراء مهنا