لعل' منظومة العلم', بمكوناتها من معرفة علمية ومناهج وأدوات لإنتاجها, هي أهم ما انجزه الانسان عبر تاريخه الطويل. ولا تعود أهمية هذه المنظومة, كأداة ذهنية لفهم الواقع ولتغييره, الي ما تنتجه من معرفة تسهم في الارتقاء بأحوال الانسان فقط, بل أيضا علي قدراتها الفائقة علي التكيف والتطور. ف' المعرفة العلمية', كمنظومة من الفروض المؤقتة عن عالم الواقع, هي منظومة منفتحة تقبل استبعاد أو تعديل ما يثبت خطأه أو ما تتأكد عدم فعاليته من معطيات, وهي في الوقت نفسه تتقبل كل ما ثبتت صحته وتأكدت فعاليته منها. وهذا ما يطلق عليه مبدأ' التفنيد' الذي يؤدي بالضرورة الي أنه' لا عصمة' للمعرفة العلمية فهي دائما خاضعة للمراجعة والتقييم. أما منهج العلم فهو, طبقا لكارل بوبر:' منهج صياغة الفروض الجريئة والمحاولات البارعة والعنيفة لتفنيدها'. ولقد شهدت هذه المنظومة التي لم يتجاوز عمرها الخمسة قرون العديد من التحولات الجوهرية كان من أبرزهما وأبعدهما أثرا تحولان هما' التحول المنظومي' وظهور علوم المنظومات, و'التحول اللاخطي' وظهور علوم التعقد. ففي البداية أدت ظروف الثورة الصناعية التي واكبت نضج منظومة العلم, في صورتها الأولي, الي تأثرها ب' مجاز الآلة'. وطبقا لهذا المجاز فانه يمكن فهم أي شييء من أشياء الواقع, سواء كان كيان أو ظاهرة, وتتبع سلوكه والتحكم فيه باعتباره مجرد تجميع لأجزاء متفرقة بغرض إنجاز فعل ما أو بلوغ غاية بعينها. ويضبط تفاعل هذه الأجزاء المتجمعة مع بعضها البعض ويحكم سلوكها قانون صارم يمكن اكتشافه. وهكذا قامت منظومة العلم, في صورتها الأولي, علي عدة مبادئ من أهمها' الاختزالية' و'الحتمية'. أما' الاختزالية', فيقضي بأنه يمكن تبسيط دراسة أي شيء ب' تفصيصه', أو' تجزئته', إلي أجزاء منفصلة, أو مكونات, يسهل دراسة كل منها علي حدة. ويقوم هذا المبدأ علي فرضين. الفرض الأول هو أن خصائص الشيء ككل يمكن اشتقاقها من خصائص مكوناته كل علي حدة. فأداء السيارة, علي سبيل المثال, هو محصلة لأداء مكوناتها من منظومات ميكانيكية وكهربائية. أما الفرض الثاني فيؤكد علي أن خصائص مكونات الشيء كل علي حدة لا تختلف عن خصائصها باعتبارها أجزاء لكل واحد. فخصائص المنظومة الميكانيكية للسيارة واحدة سواء تم تشغيلها كجزء من أجزاء السيارة أو تم تشغيلها ككيان مستقل. وعلي الرغم من نجاح تطبيق هذا المبدأ في العديد من الحالات إلا أنه فشل في الكثير منها. ومن أبرز حالات فشل هذا المبدأ هو عجزه عن تفسير ظهور' الخصائص المستجدة', وهي تلك الصفات التي يتمتع بها الشيء ككل ولا تتمتع بها مكوناته, حيث عجز هذا المبدأ عن إيجاد أجوبة مقنعة علي أسئلة من قبيل: كيف يتحول الكم إلي كيف؟, كيف ينبثق وعي العقل بنفسه من تشكيلات الخلايا العصبية للمخ؟, كيف يتولد مغزي صورة الجريدة من مجرد تجمع لنقاط بيضاء وسوداء؟ فخصائص الماء علي سبيل المثال لا يمكن اشتقاقها من خصائص مكوناته من هيدروجين واكسيجين. وخصائص جسم الإنسان كظاهرة بيولوجية لا يمكن فهمها باعتباره مكونا من65% ماء و20% بروتين و12% دهون3% مواد أخري. وهنا ظهرت' المنظوماتية' بما جاءت به من مفاهيم ومناهج جديدة للنظر في أحوال الواقع. وفي قلب هذه المفاهيم مفهوم' المنظومة', أو' الكل الذي تضيع منك خصائصه المميزة إن حاولت فهمه بتجزئته أو بتفصيصه'. إنها هذا الشيء, أي شيء وبغض النظر عن طبيعة مكوناته, الذي يحقق المعادلة:' واحد زائد واحد أكبر من إثنين'. وهكذا حدثت أولي التحولات الكبري التي إنتقلت بالعلم من صورته الأولي إلي صورته الثانية' الفكر العلمي المنظومي'. أما ثاني هذه المبادئ,' الحتمية', فيعني إمكانية' التنبؤ' اليقيني بأحوال أي شيء طالما عرفنا أوضاعه الحالية( أو ما يعرف بال' الشروط الابتدائية) وبالقانون الحاكم لسلوكه. فالحالة الحاضرة( أو الآنية) للشيء هي سبب حالته المستقبلية وهي نتيجة لحالته الماضية. أو بعبارة أخري يشبه تطبيق مبدأ' الحتمية' انتاج فيلم سنيمائي عن أحوال الشيء إن أدرته للأمام انطلاقا من مشهد بعينه( الحاضر) تتوالي أمامك المشاهد اللاحقة للعمل الدرامي( المستقبل). أما إن أدرته للخلف ستتوالي أمامك الأحداث السابقة التي أدت إلي مشهد الانطلاق( الماضي). وهكذا تخضع الأشياء لمبدأ' التنبؤية الحتمية' الذي يحولها الي مجرد أشياء آلية يمكن التحكم في سلوكها والتنبؤ بأفعالها وليس لها من خيار سوي ذلك الذي يسمح به القانون, قانون السبب والنتيجة, الذي يحكمها. وقد جاءت أولي الضربات لمفهوم الحتمية هذا من ميكانيكا الكم وبالتحديد من' مبدأ اللاتيقن' الذي اكتشفه العالم الألماني هايزنبرج(19011976). وهو المبدأ الذي يضع حدا أعلي للدقة لما يمكن للإنسان أن يلاحظه أو يقيسه وذلك بغض النظر عن مدي تعقد أو تقدم التكنولوجيات التي يستخدمها. وهكذا يصبح التحديد الدقيق للأوضاع الحالية لأي شيء من الأمور المستبعدة ويخرج تنبؤنا بأحواله اللاحقة من خانة' اليقين' الي خانة' الاحتمالات'. ويكتمل الهجوم علي مبدأ' الحتمية' في الثلث الأخير من القرن العشرين باكتشاف العلماء ل' المنظومات الكيوتية'. وهي المنظومات التي لا يمكن التنبؤ بأحوالها المستقبلية علي الرغم من معرفتنا بالقانون الذي يحكم سلوكها وذلك مثل منظومة الأحوال الجوية. وعلي الرغم من العشوائية واللاترتيب اللذان قد يبدوان علي سلوكها الظاهري, إلا أنهما ينطويان علي نظام, أو أنساق مرتبة, يمكن إكتشافها ووصفها بدقة. وهذا الإمتزاج بين العشوائية والنظام هو مايميز المنظومات الكيوتية عن المنظومات العشوائية التي لاتعرف أي نوع من أنواع الترتيب والنظام, وعن المنظومات المرتبة( أو المجبرة) التي يمكن التنبؤ اليقيني بسلوكها. وقد لاحظ العلماء أن هناك مجموعة من الصفات التي تميز هذه المنظومات ومن أهمها' التوقف الحساس علي الشروط الابتدائية' وال' لا خطية'. ويعني' التوقف الحساس علي الشروط الابتدائية' أن أي تغير طفيف في قيم الشروط الابتدائية, وأيا كان صغر قدره, سيؤدي إلي نتائج غير متوقعة وأن قدر الاختلاف بين ما هو متوقع وما هو غير متوقع هائل ولا يتناسب مع قدر التغير الطفيف في قيم الشروط الابتدائية. وترتبط هذا الخاصية بالخاصية الثانية,' اللا خطية', التي تعني غيبة التناسب بين الأسباب والنتائج فتغير ضئيل في مقدار سبب ما قد تنشأ عنه نتائج غير مأخوذة في الحسبان. ولعل أبرز أمثلة اللا خطية هي ما نعاني منه جمعيا من عدم تناسب الزيادة في المرتبات مع الزيادة في الأسعار. وبتحجيم الدور الذي يلعبه تأثير كلا من مبدأي' الاختزالية' و'الحتمية' علي الفكر العلمي تشكلت' منظومة الفكر العلمي اللاخطي'. وهي منظومة تقوم علي نظرة علمية جديدة لأحوال كلا من الواقع الطبيعي والواقع الاجتماعي. نظرة تتجاوز' مجاز الآلة', الذي تبنته علوم عصر الحداثة الي' مجاز الحياة' الذي تبنته علوم عصر ما بعد الحداثة. فالنظرة القائمة علي' مجاز الآلة' تعني الحتم ومن ثم اليقين والاهتمام بالتنبؤ والوصف الكمي لمستقبل الاشياء. وفي المقابل يعني' مجاز الحياة' اللاحتم ومن ثم الاحتمال والاهتمام بالفهم والوصف الكيفي لمستقبل الأشياء. وبينما تهتم النظرة القائمة علي' مجاز الآلة' بالمنظومات المستقرة تركز النظرة القائمة علي' مجاز الحياة' بأحوال المنظومات وهي في حالة الغليان والفوران والتغير والتبدل, أي بأحوالها وهي' بعيدة عن وضع الاتزان( أو الاستقرار)'. هذه النظرة التي تأخذ في اعتبارها خاصية' اللاخطية' هي التي تميز العلاقات بين مكونات منظومات الواقع فتسفر عن تنوع وثراء في سلوكها, وتقدر الدور الهام الذي تلعبه' الفوضي' في إنتاج' الانتظام'. إنها نظرة' ما بعد الحداثة في العلم' التي تشكل الإطار الجامع للعديد من النظم العلمية المستحدثة( أو العلم الحديث في صورته الثالثة). لمزيد من مقالات د.السيد نصر الدين