قد يبدو الحديث عن ملف التعليم بعيدا عن قضايا اللحظة الراهنة وتحدياتها. لكن هذه السلسلة من المقالات التي تنتهي بهذه المقالة كان باعثها انه ما من قضية من قضايا الاقتصاد او التنمية او السياسة او الأخلاق او الثقافة في مصر الا وكان التعليم أحد أسباب تفاقمها. وقد أثرت في الاسبوع الماضي ظاهرة الدروس الخصوصية التي لا يوجد بيت في مصر لا يئن منها والتي ما زالت رغم الحديث المتواصل عنها تنخر في عظام التعليم المصري الواهنة أصلا. ولكي يكتمل الحديث عن هذه الظاهرة الكارثية يجب أن نعرف كيف تعاملت معها دول العالم الأخري الفقيرة منها والغنية علي حد سواء. تؤكد الدراسات والتقارير الدولية أن معظم مجتمعات العالم وليس مصر فقط تعاني من الدروس الخصوصية.لكن الظاهرة لدينا استشرت فأصبحت بالفعل تعليما موازيا له مؤسساته واقتصاده وهياكله وموارده البشرية. وقد بلغت نسبة الدروس الخصوصية في مصر69% من عدد الطلاب وهي نسبة شديدة الارتفاع حين نقارنها بالدول الاخري وفقا لدراسة صادرة عن معهد التخطيط الدولي التابع لليونسكو. ففي إنجلترا مثلا تبلغ نسبة طلاب المرحلة الثانوية الذين يتلقون دروسا خصوصية8% من عدد الطلاب, وفي اليابان6.8% من تلاميذ الصف الثالث الثانوي يتلقون دروسا في منازلهم وفي كندا9%. وفي بنجلاديش إحدي دول العالم الفقيرة بلغت نسبة من يتلقون دروسا خصوصية21% في آخر إحصائية. قد يعتقد البعض أن ظاهرة الدروس الخصوصية في المجتمعات الأخري علي قلة نسبتها تشبه الدروس الخصوصية لدينا وهو أمر غير دقيق بالمرة. ففي بعض الدول الأوروبية وفي الهند وكوريا الجنوبية تأخذ الدروس الخصوصية أشكالا عدة منها ما يتم بطريق الانترنت ومنها ما تنظمه المدرسة نفسها بعد انتهاء ساعات اليوم الدراسي كما أنها تقتصر علي مواد دراسية معينة. أما في مصر فنحن نعلم جميعا كيف تتم الدروس الخصوصية علي نطاق واسع وفي كل المواد الدراسية وبشكل منهجي ومنظم في المنازل عقب انتهاء اليوم الدراسي بل انها تتم أحيانا في أثناء اليوم الدراسي نفسه في مرحلة الثانوية العامة. ولهذا تبدو الفصول الدراسية لطلاب الثانوية العامة خاوية علي عروشها تحت بصر مسئولي المدارس والإدارات التعليمية ثم أصبحت الدروس الخصوصية تتم في مراكز خاصة وقاعات ويتم الاعلان عن ذلك والترويج له في وضح النهار. وكانت آخر تجليات الظاهرة وصولها الي الجامعات فأصبحت الدروس الخصوصية جنبا الي جنب مع المذكرات وأوراق الملخصات أمرا شائعا في الكليات النظرية والتطبيقية بما فيها كليات الطب والهندسة. هذا مشهد تنفرد به مصر عن دول العالم أجمع ولم يعد يتبق لنا الا أن تعين الدولة وزيرا للدروس الخصوصية! من بين ما تنفرد به مصر عن غيرها من دول العالم أن الدروس الخصوصية قد أصبحت تمثل إحدي شبكات الفساد في المنظومة التعليمية. ولا اقصد بالفساد هنا القضاء علي الوظيفة المعرفية والدور التربوي والثقافي والوطني للمؤسسة التعليمية الرسمية( ولو أن كل هذا قد حدث بالفعل) ولكن أقصد به الفساد بمعناه الوظيفي والأخلاقي. أقصد به الفساد بمعني الانحراف وافتقاد النزاهة. فلم يعد سرا أن مديري المدارس والمشرفين ومسؤولي الإدارات التعليمية يتقاسمون جزءا من العوائد المالية للدروس الخصوصية نظير السماح للمدرسين بالغياب المنظم لكي يتفرغوا لأداء مهمتهم غير المقدسة في المنازل والمراكز وقاعات الدروس الخاصة التي تمتلأ بها المدن. فاذا كان المدرسون هم العنصر التنفيذي القائم علي الدروس الخصوصية فإن وراءهم ومعهم الكثير من المسئولين المشاركين بالتواطؤ والمساعدة. حتي نظم أعمال السنة والامتحانات لدينا تشجع بخبث علي الدروس الخصوصية. نحن إذن أمام شبكات فساد حقيقي. مثل هذا لا يحدث في الدول الاخري التي توجد بها دروس خصوصية للطلاب المتعثرين دراسيا لكنها لا تقترن بالفساد. ولهذا بدأت دول العالم المتقدم في تنظيم وتقنين هذه الاوضاع لمساعدة التلاميذ المتعثرين دراسيا في مواد معينة مثل الرياضيات. ففي أمريكا مثلا صدر القانون الشهيرnochildleftbehind أي لا تترك طفلا متعثرا تعبيرا عن اهتمام الدولة بالتلاميذ المتعثرين دراسيا بهدف مساعدتهم علي تجاوز تعثرهم الدراسي. دول أخري مثل ألمانيا وفرنسا قامت بتقنين عمل مراكز الدروس الخصوصية وإخضاعها لمجموعة من الاشتراطات والالتزامات بل إن بعضها تحول الي شركات منها ما يتبع المدارس والإدارات الحكومية. ولهذا فإن الدروس الخصوصية في هذه الدول لم تتحول لظاهرة تهدد الدور التربوي والثقافي للمدرسة. فمن يعمل في الشركات والمراكز ليسوا من المعلمين النظاميين في المدارس لأن هذا العمل يتعارض مع واجباتهم الوظيفية وأوقات دوامهم في المدارس. فالذين يقومون بالدروس الخصوصية في هذه الدول أغلبيتهم من الطلاب حديثي التخرج والمتقاعدين من رجال التعليم ومن النادر أن يقوم معلم نظامي بإعطاء دروس خصوصية لتلاميذه الذين يقوم بالتدريس لهم في المدرسة. إن أخطر ما في الأمر أننا لم نستوعب بعد خطورة انفلات مؤسسة الدروس الخصوصية بعيدا عن أي إطار مقنن يكبح جماح عشوائيتها وطمعها وانتهازيتها. لم نستوعب بعد خطورة ان المعلم الخصوصي لا يقوم في دروس المساء والسهرة بدور التربوي بل بدور موفر الخدمة وبالتالي فإن ما يهمه هو عدد الزبائن وليس القيم لأنه لم يعد قدوة بل مقاول أفراد. مجرد تساؤل هل فكر رئيس الجامعة الذي يجلس علي المقعد نفسه الذي كان يجلس عليه طه حسين أن ينظم بمناسبة ذكري الأربعين لرحيله ولو ندوة بسيطة أو يطبع كتيبا صغيرا عن الرجل الذي أشعل الوعي المصري بأفكاره التعليمية و الإصلاحية ؟ حدث هذا في كل الدول العربية تقريبا ما عدا الجامعة التي ترأسها يوما طه حسين! لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم