ضرب لنا رسول الله صلي, الله عليه وسلم, أروع الأمثلة, في إعلاء قيم التسامح والعفو والتنازل حقنا لدماء المسلمين, ألم يمنعوا نبي الله من كتابة( بسم الله الرحمن الرحيم) وقالوا: لا نعرف إلا رحمان اليمامة. وعلي نهجه, صلي الله عليه وسلم, سار الصحابة والخلفاء الراشدون فانسحب خالد بن الوليد, من معركة( مؤتة) حتي لا يهلك جيش المسلمين, وتنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية حقنا لدماء المسلمين. تلك الفضائل الإسلامية غابت عن المشهد السياسي الراهن, وتمسك كل فصيل سياسي برأيه دون تقديم أي تنازلات لمصلحة الوطن. وانخرطت الجماعات الإسلامية في موجة من العنف حصدت أرواح الأبرياء, ودفعت نحو مزيد من العنف والفوضي في ربوع البلاد, وغاب عن أدبيات الحركة الإسلامية, ما تعارف عليه كبار الفقهاء وعلماء الأمة, تحت مسمي: فقه التنازلات وإن دفعت نحو موجة من العنف التي حصدت دماء آلاف الأبرياء! علماء الدين من جانبهم يطالبون الجميع بإحياء تلك الفضائل والأخلاق الإسلامية, والتنازل من أجل مصر وليس من أجل الجماعة أو الحزب أو المصالح الشخصية, فمصر في حاجة لجهد الشرفاء لتجاوز الأزمة الراهنة. وطالبوا جميع القوي والتيارات السياسة والحكومة والمعارضة بضرورة وضع مصلحة مصر فوق كل اعتبار, وشددوا علي أن غياب فقه التنازلات يعد السبب في كل ما تشهده مصر حاليا من أزمات. يقول الدكتور عبد المقصود باشا, أستاذ ورئيس قسم التاريخ الإسلامي بجامعة الأزهر, إن التاريخ الإسلامي مليء بالأحداث والمواقف التي قد يفهمها البعض علي أنها متناقضة, ولكنها في النهاية تمثل فكرا معينا لأشخاص معينين, لأن هناك بعض الجماعات الإسلامية تتصور خطأ أن فهمها للدين هو الصواب, وأن فهم الآخرين للدين هو الخطأ, فمنهجهم رأيي صواب لا يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ لا يحتمل الصواب, وهذا عكس ما قاله الإمام الشافعي رضي الله عنه, من أن رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب, وهناك أيضا جماعات كثيرة تتبني مواقف غاية في الخطورة ولا تسمح لغيرها بالنقاش فيما تعتقده, وهذا تماما ما حدث في عصر سيدنا عثمان رضي الله عنه, حينما ادعي البعض أنه علي صواب, وأن غيره علي خطأ, ومن هنا اقتحم الرعاع البيت علي سيدنا عثمان رضي الله عنه وقتلوه دون أن يرفع سيفا أو يشهر رمحا, وعلي المنهج نفسه سار أتباع الإمام علي بن أبي طالب وأتباع معاوية كما أن الإمام الحسن رضي الله عنه لم يرض إراقة دم المسلمين وترك الخلافة لمعاوية, ليحقن دماء المسلمين, ولو فقه بعض الناس في أيامنا هذا لأدرك هؤلاء أن أكثرهم تدينا هو أكثرهم من الله قربا وأقربهم من رسول الله, مكانة, ونقول لهؤلاء لو أن الإمام الحسن لم يتنازل عن الخلافة فكم من الأرواح كانت, ستزهق وكم من الأرامل واليتامي والثكالي سيكونون في المجتمع المسلم ؟, إن تنازل الحسن رضي الله عن الخلافة يعد نموذجا فريدا لابد أن نأخذ منه العبرة, أقول للجميع: أكثركم تنازلا أكثركم من الله قربا ومن النبي صلي الله عليه وسلم مجلسا. صلح الحديبية نموذجا من جانبه قال الدكتور عبد الفتاح إدريس, أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر, إن من القواعد المقررة في الشرع عند تعارض المصالح مع المفاسد التي تقابلها في عمل واحد, فإنه يقدم في هذه الحالة دفع المفسدة علي جلب المصلحة, باعتبار أن المفسدة يتولد عنها ضرر لا يقارن بالمصلحة التي يتم تحصيلها في هذه الحالة, كما أن من قواعد الشرع, أنه عند اجتماع المفاسد في عمل واحد, فإنه يقدم دفع المفسدة الأشد ضررا بارتكاب المفسدة الأدني ضررا, وقد طبق رسول الله, صلي الله عليه وسلم, ذلك في وقائع عدة, لعل منها: ما فعله في صلح الحديبية, فقد قبل ما عرضته قريش عليه, مع أن في بعض شروط هذا الصلح إجحافا للمسلمين, لكن هذا الصلح ترتبت عليه مصلحة أكبر من المفسدة المقترنة بإبرامه وبقبوله, وهي تفرغ الرسول صلي الله عليه وسلم لأمر الدعوة, ونشرها علي حدود الجزيرة العربية, ومن ثم فإن تنازله, صلي الله عليه وسلم, عما يعد حقا في هذا الصلح, كان لدفع مفسدة أعلي وتحقيق مصلحة راجحة. العقاب أولا ويري أنه إذا طبق هذا علي الواقع المعيش في مصر, فإن إدخال هذه الفئة- التي كفرت المجتمع واستحلت دماء أفراده والممتلكات العامة والخاصة- في الحياة العامة, وإن كان فيه مفسدة لا تخفي علي أحد, إلا أن المفسدة المتوقعة من إقصائها عن المشاركة المجتمعية أشد ضررا, باعتبارها جزءا من نسيج المجتمع, وإقصاءها فيه إشعار لها بعدم الانتماء إلي أهله, وإشعارها بالعزلة والاضطهاد, رغم أنها فعلت بهذا المجتمع ما لا يتصور أن قريشا فعلته بالمسلمين, إلا أن هذا لا ينبغي أن يكون فيه إهدار لأصحاب الحقوق التي انتهكها أفراد هذه الفئة, واعتدوا عليها, والدماء التي أريقت ظلما, فإن نصوص الشرع لم تجعل لأحد كائنا من كان أن يهدر هذه الحقوق, لأن لله تعالي فيها نصيبا, بل ان من هذه الحقوق ما هو حق خالص لله تعالي, كتلك الجرائم التي وقعت علي المجتمع بأسره, من الاعتداء علي أمنه, وإتلاف مرافقه وممتلكاته ومؤسساته, فإن هذا ليس بوسع أحد من الخلق العفو أو التجاوز عنه, لأن الله سبحانه لم يفوض أحدا في ذلك, ولذا فإن العقوبة المقررة علي هذه الجرائم يجب شرعا إنفاذها فيمن ثبت عليه ارتكاب هذه الجرائم, ثم يكون النظر في إدماج من لم يرتكب شيئا من ذلك في نسيج المجتمع. أخطاء الحركة الإسلامية الأسس التي قد تنطلق منها الكثير من الحركات الإسلامية لرفض ما يسمي فقه التنازلات, يري الدكتور ناجح إبراهيم, عضو مجلس شوري الجماعة الإسلامية, أنها أسس خاطئة بحاجة إلي مراجعة, ويقول: إن أزمة الحركة الإسلامية تتمثل في أن المعركة تظهر للجميع بأنها خاسرة, والانسحاب أحيانا يكون مهما للحفاظ علي الأبناء ومنع إراقة الدماء, كما أن الرسول صلي الله عليه سلم في صلح الحديبية رأي ألا يضيع المسلمين في معركة خاسرة وألا يهلك قريش, لأنه يرجوا إسلامهم, وقد حدث ذلك وأسلم منهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان, كما أن الحركة الإسلامية يغيب عنها أيضا فقه المصالح والمفاسد, فتكون المفسدة ظاهرة للجميع ورغم ذلك تقدم علي الأمر, وتكون المصلحة واضحة وتحجم عنها, وكل هذا يحتاج إلي تفعيل وتطبيق, وأيضا فالحركة الإسلامية لا تنظر لفقه النتائج, فهل مثلا التظاهر وقطع الطريق سيكون له نتيجة ويحقق ما تسعي إليه الحركة الإسلامية حاليا؟!, المؤكد أن التظاهر وقطع الطرق لن يؤدي إلي عودة حكم الإخوان, فلابد أن تنظر الحركة الإسلامية للنتائج قبل أن تقدم علي أي فعل, وكل ما يحدث حاليا نتيجة لعدم تفعيل فقه الانسحاب وفقه المقاصد وفقه النتائج. ضرورة لمصلحة الوطن وفي سياق متصل يقول الدكتور كمال حبيب, الباحث في شئون الحركات الإسلامية, إن التاريخ يؤكد أنه لا يمكن أن تكون الدولة لتيار واحد, وتجربة الإخوان في الحكم أكدت هذا المعني, ومصر في جزء من تعريفها كهوية أنها ملك جميع أبنائها, ولن يستطيع تيار واحد أن يحكمها دون التيارات الأخري, ولذلك لابد من الوفاق الوطني بين جميع التيارات, وهذا يتطلب أن يتنازل الجميع عن البرامج والأيديولوجيات من أجل مصلحة الوطن, والتنازل هنا ليس لمصلحة الحزب أو الجماعة أو التيار, ولكنه لمصلحة مصر ولتحقيق الأمن والاستقرار بدلا من هذه الأوضاع, لأن غياب الاستقرار قد يؤدي لشكل من أشكال الاقتتال كما حدث في الجزائر ويحدث حاليا في سوريا, ولذلك علي الجميع وضع مصلحة مصر فوق كل اعتبار, ويجب ألا يصل العناد السياسي لأي تيار أن يدخل البلاد في حالة احتراب أهلي, فمصر لابد أن تكون فوق الجماعة, والحزب, والبرامج والأيديولوجيات, ولتحقيق ذلك لابد أن يعترف الإخوان بما حدث في30 يونيو و3 يوليو لأن هذا أصبح واقعا, ومن ناحية الدولة لابد من الإفراج عن الذين لم يثبت تورطهم في أي أعمال عنف, والدولة عندما تفعل ذلك فإنها تشجع شباب الإخوان علي الدخول في العملية السياسية.