من منظور الشعب, صانع الثورة في25 يناير وفي30 يونيو, أري أول شروط انتصارها في معناها, وهو: أن الشعب لن يقبل, والحكم لن يستطيع, إدارة الدولة بالأساليب التي فجرت الثورة; وأن الشعب لن يقبل, والحكم لن يستطيع, تكريس الأوضاع, التي ولدت الثورة. ثم يأتي شرطان مكملان للانتصار هما: تغليب التحالف علي التناقض بين قوي ثورة30 يونيو لدحر الثورة المضادة, وبناء دولة المواطنة باعتبارها عنوان انتصار الثورة الديمقراطية الوطنية. وأسجل, أولا, إن عدم استيعاب السلطة, الانتقالية ثم المنتخبة, معني الثورة يقود, دون ريب, الي إخفاق الثورة والدولة. وقد أعلن الشعب المصري بشعاراته وهتافاته في ثورتيه, الفريدتين وطنيا وعالميا, رؤيته الواضحة لتطلعاته وأهدافه المشروعة; وهي العيش والحرية والعدل والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والسيادة الوطنية; وطالب بسقوط نظام الفساد المنظم ثم بسقوط نظام المتاجرة بالدين. وانطلاقا من استيعاب المعني والمطلب فان عنوان انتصار الثورة المصرية هو إقامة دولة المواطنة, دولة كل المصريين, التي تحمي كل حقوق المواطنة والإنسان لهم, دون تمييز أو تهميش أو انتقاص أو إقصاء, وتحقق التقدم الشامل والسيادة الوطنية. وبكلمات أخري, فان الثورة لن تكتمل بغير بناء نظام جديد; يمثل نقيضا ونفيا للفاشية التكفيرية ومشروعها لتحويل مصر الي ولاية تحكمها جماعة تحتكر صفة الاسلام والمصريين الي رعايا في دولة خلافة مزعومة, ونقيضا ونفيا لنظام الفساد المنظم والبيروقراطية والرأسمالية الطفيلية. أقصد النظامين, اللذين جعلا الثورة حتمية رغم فداحة ثمن إسقاطهما; لأنهما أهدرا حقوق المواطنة وقوضا السيادة الوطنية, بتوليد وتكريس أسباب الفشل والفقر والظلم والجهل والقهر والقمع والذل والتمييز والتهميش والتخلف والتبعية. وثانيا, أن الشعب صانع الثورة المصرية, وكل ثورة شعبية, قد عبر عن حس سليم; حين أدرك أن الخطر الداهم والقائم علي مصير الوطن والأمة هو الفاشية التكفيرية, التي تواصل إرهابها وتخريبها وترويعها لإفشال الثورة والدولة. وليس حديث المصالحة سوي حديث إفك بعد أحكام القضاء عنوان الحقيقة, وإطالة لفوضي فترة الانتقال ومضاعفة لمعاناة الأمة; لأن فقدان الاتجاه يعرقل الانطلاق نحو بناء نظام جديد. نظام لن تقوم له قائمة بغير حل وحظر وتجريم جماعة الإخوان وغيرها من جماعات الفاشية الدينية, مع تحقيق العدالة الناجزة في محاكمة مجرميها, ونبذ الفكر التكفيري والنهج الإرهابي لقادتها, وتجفيف منابع توليد جندها المضلل. وقد آن لاستيعاب أن مصر في حالة حرب فرضت علي الأمة, التي قبلت مواجهة التحدي, وأن الحكم لا يكون مستحقا إلا لمن يعترف الشعب بقيادته لأنه يحقق أهداف ثورته وتطلعاته المشروعة, وأن الخيبة حصاد استجداء مصالحة تنبذها تنظيمات أعلنتها مدوية: نحكم أو نحرق, مهددة مصير الوطن والدولة والأمة. وثالثا, أن قوي الثورة قد تغيرت بين25 يناير و30 يونيو. فقد ضمت قوي ثورة يناير شباب مصر المتطلع الي الكرامة والتقدم من شتي الطبقات, وتمثلت قوي الثورة المضادة في المنتفعين من نظام الفساد المنظم والبيروقراطية والرأسمالية الطفيلية, وانتصرت الثورة حين انضمت الجماهير الشعبية لها, التي دفعت ثمن إخفاقات عهد مبارك. وقد وئدت ثورة يناير حين التحق الإخوان وحلفاؤهم بها ونجحوا في اختطافها, وحولوا مسارها لإقامة دولة الفاشية الدينية. وساهم بجانب خديعة الدين, التي انطلت علي غالبية الأمة, تآمر أمريكي داعم لتمكين الإخوان في سياق مخطط الفوضي الهدامة للتفكيك والتركيع, وغفلة قيادة المجلس العسكري السابق, رغم مأثرة حقنها لدماء ثوار التحرير, حين تصورت نهاية الثورة بانهاء حكم مبارك ومؤامرة التوريث, ثم توهمت أن اليد العليا في السلطة ستكون لها رغم حكم الإخوان. وأما ثورة يونيو فقد ضمت بدورها شباب ثورة25 يناير, وانتصرت بدورها حين انضمت لها الجماهير الشعبية, وانتصرت لها القوات المسلحة وقائدها, ووقفت جماعة الإخوان وحلفاؤها في الداخل وشركاؤها في الخارج في معسكر الثورة المضادة. ورابعا, أن ثمة تعلما إيجابيا ظاهرا في ثورة30 يونيو من دروس إخفاق ثورة25 يناير. فالشعب الذي انطلت عليه خديعة المتاجرة بالدين, قد نبذها بعد انفضاح المخادعين, وأضاف الي شعاراته محتوي ديمقراطيا ووطنيا أنضج. وفي الجيش, فان قيادة طنطاوي, الذي انزلق لفخ تمكين الإخوان, حلت محلها قيادة السيسي, الذي انحاز للشعب وثورته. لكن انضمام منكوبي ثورة25 يناير الي صفوف ثورة30 يونيو, وإن أضاف زخما للثورة, فقد بات يهدد بفقدان الإتجاه نحو بناء دولة المواطنة, عنوان انتصار الثورتين. وقد دفع الأخيرين للتحول من الثورة المضادة الي الثورة عداء حقيقي لمشروع دولة الفاشية التكفيرية, وخوف مقيم من هدم قيم ومؤسسات الدولة المدنية الحديثة, ولكن أيضا وهم بإعادة انتاج نظام ما قبل ثورة25 يناير, التي يرونها نكسة ونكبة ووكسة ومؤامرة!! ويتجاهل الواهمون أن الثورتين لم تنتصرا بغير انضمام الشعب لهما, ويضعفون ركائز التحالف بين قوي الثورة, التي لا تزال تواجه حرب الإرهاب والفاشية وضغوط الخارج عليها بجانب نفر يروج وعيا مضللا وزمرة تجسد جهلا أرعن, ولن تنتصر نهائيا بغير بناء نظام جديد يحترم كل حقوق المواطنة. وأخيرا, أقول إن طبعة جديدة من جماعة الإخوان وما يماثلها من جماعات, بعد إزاحة ما يسمي بالقيادة القطبية, لن ترتب- إن تحققت- سوي استمرار تهديد مصير الوطن والدولة والأمة. فالخديعة باسم الدين من أجل الحكم ومنافعه لا بديل عن استئصالها, والفكر التكفيري المولد للإرهاب لا بديل عن استئصاله. وبعد تطبيق العدالة علي المجرمين منهم, ومع الإستمرار في محاربة الإرهاب وردع التخريب والترويع والتحريض الديني, يبقي من حق الإخوان وحلفائهم- بعد حل وحظر وتجريم تنظيماتهم وأذرعتها- أن يؤسسوا أحزابا, يحظر عليها أن تخلط السياسة بالدين, وتطرح كغيرها برامج تعبر عن مصالح اجتماعية ورؤي سياسية, في إطار دولة وقيم ومؤسسات المواطنة والديمقراطية. لمزيد من مقالات د. طه عبد العليم