هو أخطر مكونات الوعي الثقافي في دولة مثل مصر, يتجاوز عدد الذين يعيشون تحت خط الفقر فيها أربعين في المائة من عدد السكان, وتكاد الأمية أن تكون سمة ملازمة لما يقرب من نصف عدد السكان الذين تسيطر عليهم تقاليد ريفية متزايدة. خصوصا منذ أن رفع السادات شعار أخلاق القرية الذي ترتب عليه ترييف المدينة, وترييف الوعي الجمعي نفسه, وذلك علي نحو أسهم في تصاعد النزعة البطركية التي هي أولي علامات التخلف في وعي أمة تسعي إلي التقدم. ولذلك ظل الوعي الثقافي العام ينحدر منذ أيام الرئيس المؤمن, الداعي إلي أخلاق القرية وليس قيم المدينة العصرية الحديثة. ولم يتوقف انحدار هذا الوعي منذ السبعينيات, إذ أخذ يفرض ملامح تخلفه المتزايد علي الخطاب الديني السائد الذي ازداد سلفية ومحافظة وتخلفا في آن, ففارق الوسطية التي اعتدنا عليها في الخطاب الديني الذي عرفت به مصر, والذي ظل علامة بارزة علي حضور الأزهر وفاعليته في صياغة خطاب ديني, يواكب المتغيرات الإيجابية في المجتمع, ويتأثر بها بقدر ما يؤثر فيها. ولكن كان من الواضح أن السبعينيات الساداتية التي زلزلت المجتمع المصري, لم تترك الخطاب الديني علي ما كان عليه من وسطية وصبغة مدنية, متوارثة منذ ثورة1919, وإنما أسهمت في تغيير ملامحه شيئا فشيئا, وأدخلت عليه عناصر تكوينية مناقضة في صياغاته وفي توجهاته. وكان ذلك يحدث في موازاة نقل مركز الثقل من الأزهر إلي خارجه, وحلول دعاة جدد غير أزهريين محل الدعاة الأزهريين, وأصبح من الطبيعي أن تحل فتاوي مفتي السعودية الأسبق ابن باز( بفكره الذي يزيد أفكار ابن تيمية جمودا) محل فتاوي الإمام محمد عبده رائد العقلانية الإسلامية المنفتحة في الأزهر. وكانت النتيجة أن أخذت نبرة التعصب تعلو علي نبرة التسامح, وتسعي إلي إخمادها, وتتحول نبرة التعصب إلي تكوينات خطابية, تجاوز مفرادات اللغة وتراكيبها إلي علاقات الواقع وتكويناته, فتنقلب الكلمات إلي رصاصات تخترق صدور المعارضين لهذه التحولات الخطابية الجديدة وما يوازيها من تحولات سياسية اجتماعية ثقافية. هكذا اغتيل فرج فودة في الثامن من يونيو1992, بعد مناظرة شهيرة مع واحد من صناع الخطاب الديني المتطرف, فيما بدا علي أنه عقاب له, وحدثت محاولة اغتيال نجيب محفوظ في أكتوبر1994, وذلك في تتابع حملة تكفيره بعد كتابته روايته الرمزية أولاد حارتنا. ولم يكن من قبيل المصادفة- والأمر كذلك- أن يسبق في تعاقب ضحايا رصاص التعصب الديني, رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب الأسبق الذي تولي رئاسته في يناير1984, واتخذ مواقف حاسمة, منها قراره بتأجيل مناقشة تطبيق الشريعة الإسلامية إلي أجل غير مسمي; فكانت النتيجة اغتياله في الثاني عشر من أكتوبر.1990 ولا أظن أن مصريا وطنيا يمكن أن ينسي كيف تحول الخطاب الديني الوسطي إلي خطاب ديني إرهابي منذ أواخر السبعينيات. ولم يكن من المستغرب أن يكون السادات هو الضحية الأولي لهذا الخطاب. وللأسف, لم يستطع مبارك وعهده أن يواجه هذا الخطاب التكفيري مواجهة جذرية; فالمواجهة الجذرية لمثل هذا الخطاب تحتاج إلي مواجهات جذرية متوازية, اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا, لم يكن نظام مبارك قادرا عليها أو راغبا فيها. أضف إلي ذلك سياسته التي سعت إلي الإفادة من الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسي لصالح بقاء نظام مبارك في الحكم, مدعوما من الولاياتالمتحدة التي استبدلت به جماعة الإخوان المسلمين عقب ثورة يناير التي سرقت الثورة من أصحاب الحق فيها, وذلك بدعم لا يغتفر من المجلس الأعلي للقوات المسلحة والولاياتالمتحدة التي حلا لها أن تستمر في دور إمبراطور العالم. وجاء حكم الإخوان ليمنح الخطاب الديني الإقصائي والتحريضي والتكفيري غطاء سياسيا وتشجيعيا من رأس الدولة ورأس النظام علي السواء. ولا أدل علي ذلك من نص كلمة محمد عبد المقصود في مؤتمر نصرة سوريا التي دعا فيها علي المعارضة الكفار بالهلاك والدمار, أو كلمة محمد حسان التي حذر فيها من الرافضة أو الشيعة. ولم يكن من المستغرب أن يصدر بيان عن الأزهر يؤكد- في مواجهة ذلك- أن المعارضة السلمية لولي الأمر الشرعي جائزة ومباحة شرعا. ولا علاقة لها بالإيمان والكفر. والحق أن التضاد القائم بين الخطاب الديني لأمثال محمد عبد المقصود ومحمد حسان وغيرهما من ناحية, وبين خطاب الأزهر الذي يحاول العودة بالخطاب الديني إلي وسطيته الضائعة من ناحية أخري, هو التحدي الأكبر الذي لا يواجهه الأزهر وحده, وإنما تواجهه كل مؤسسات الإعلام والتثقيف, اليوم, خصوصا تلك التي تؤمن بأن الدولة المدنية هي الطريق الوحيد إلي التقدم والازدهار في مصر. صحيح أن حكم الإخوان المسلمين قد انتهي, لكن الخطاب الديني الذي لايزال سائدا في مصر ليس هو الخطاب الديني الذي تنتجه وتشيعه مؤسسة مثل الأزهر, بواسطة علمائها, وذلك نتيجة لعوامل عدة تتراكم منذ السبعينيات إلي الزمن القبيح لحكم جماعة الإخوان المسلمين المتحالفة مع جماعات سلفية, يسهل تحديدها بعد أن سقط عنها القناع. إن الخطاب الديني السائد, لم يفارق تطرفه ولا تحجره السلفي, خصوصا في الأوساط الأمية والبيئات الشعبية التي تقع تحت خط الفقر, حيث تتردد مواعظ وخطب سلفية المنزع في جمودها, وفي تشددها, وفي تكفيرها لكل ما يدعو إلي الدولة المدنية. ولذلك يظل الخطاب الديني السائد خطابا سلفيا, تمييزيا, إقصائيا, رافضا لمبدأ المواطنة, مؤسسا للتمييز ضد المرأة. وهو خطاب تحريضي ضد الأقباط بسبب جذوره التي تعود إلي ابن تيمية الذي لا تزال لأفكاره التدميرية آثارها المستمرة إلي اليوم. ولذلك فهو خطاب يستحق الكشف عن جذوره وأصولها التي لم تعد إلي الحياة إلا في حقبة السبعينيات وكوارثها التي لا نزال نعاني آثارها إلي اليوم في مجالات عديدة, تبدأ من نوع الخطاب الديني المسيطر, وتمتد إلي هوية الدولة. لمزيد من مقالات جابر عصفور