لم تكن مفاجأة أن نسمع رئيس الوزراء الإثيوبي يطلب في العلن أن تشارك مصر والسودان بلاده في إنشاء سد النهضة. الواضح أن الإعلانات الإثيوبية المتتالية عن النسب المئوية لاكتمال البناء والتي وصلت إلي ما يزيد علي25% لم تكن في الحقيقة أرقاما صحيحة بقدر ما كانت من نوع الخداع الذي يعتبر أن عملية تحريك المعدات إلي موقع السد وإتمام بناء الاستراحات لايواء العمال والمهندسين والمكاتب للأجهزة العاملة في إنشاء السد, وأيضا عملية نقل كميات من الأتربة من هنا وهناك وحفر قناة التحويل وغير ذلك من الأعمال الثانوية والتي يمكن أن تكون تكاليفها بالفعل تساوي وتعادل ربع إجمالي التكاليف إلا أن ما تبقي من الأعمال الأكثر احتياجا إلي التقنيات العالية مثل الجسم الخرساني للسد الذي يبلغ ارتفاعه حوالي150 مترا( وهو ارتفاع مبني يتكون من50 طابقا) ومحطة توليد الطاقة الكهربائية التي تشمل التوربينات والأجهزة والمعدات الميكانيكية والكهربائية البالغة التعقيد والتي تحتاج إلي خبرات عالية في التوريد والتركيب والتشغيل والصيانة كل هذه الأعمال البالغة الأهمية لم يبدأ فيها العمل بعد. ولعل السيد رئيس الوزراء الإثيوبي قد أدرك في هذه المرحلة المبكرة جدا من إنشاء السد أن الطريق أمام اتمام أعمال الإنشاء لا يزال طويلا وربما قد تأكد أيضا أن التمويل المتاح قد لا يكفي لتحقيق الحلم القومي بتشييد هذا العمل بميزانية تعتمد فقط علي الاكتتاب بين المواطنين وتدبير المبالغ من وفورات موازنة الدولة والاعتماد علي المنح والقروض من الدول المحبة والصديقة والشقيقة الراغبة في مساعدة الحكومة الإثيوبية والشعوب الإثيوبية. إذن قد يكون السبب وراء العرض الإثيوبي للمشاركة من مصر والسودان هو عدم القدرة علي التمويل الذاتي وقد يكون السبب وراء العرض أيضا وضع الدولتين أمام أمر واقع يظن رئيس الوزراء أنهما لن يقبلا به لأن لهما مواقف سابقة رافضة لفكرة إنشاء السد من الأساس إلا أن القليل من التأمل في الظروف التي أدت إلي الواقع الذي تعيشه اليوم قد تجعل متخذ القرار يعدل من المسار التفاوضي للبلاد خصوصا بعد نجاح ثورة30 يونيو والذي يتيح للنظام الجديد أن يتغاضي عما حدث في الماضي وتطوي صفحته ويبدأ في اتخاذ خطوات في اتجاه مخالف تكتيكيا ولكنه لا يخالف التوجه الإستراتيجي والأهداف والتطلعات القومية نحو مستقبل أفضل للأجيال القادمة من المصريين في نفس الوقت. ويري البعض أن توافق مصر علي المشاركة في تمويل سد النهضة الإثيوبي, وربما يكون ذلك عبر طرح المساهمة المصرية علي شكل أسهم للاكتتاب بين المواطنين المصريين سواء المقيمون بالداخل أو المغتربون بالخارج وسيكشف ذلك بالإضافة إلي جمع الأموال اللازمة وإعفاء الخزانة الحكومية من أعباء تدبيرها إلي مدي استحسان المواطنين للفكرة, ورغبتهم في التعاون مع دول حوض النيل في التنمية والمشاركة في الانتفاع بمياه النهر و الضرورة المستقبلية لذلك- لكن المشاركة لا يمكن أن تكون فقط بالتمويل ودون الحصول علي بعض المزايا والمنافع التي يمكن أن تكون محل مفاوضات ونستطيع أن نوجزها فيما يلي: المشاركة في إعادة تصميم السد طبقا لتوصيات اللجنة الثلاثية ولا بأس من ضم الخبراء الدوليين الذين سبق اشتراكهم في مراجعة التصميمات المبدئية إلي اللجنة التي ستعيد التصميم مع ضرورة اعتبار الموافقة علي التصميمات النهائية والتي سيقرها الخبراء المصريون والسودانيون والإثيوبيون والدوليون ملزمة للجانب الإثيوبي ولا يقبل التراجع عنها لأي سبب من الأسباب. أن تشارك مصر والسودان في إعداد الخطة اللازمة لملء خزان السد وتحديد عدد السنوات التي يتم خلالها الانتهاء من ملء البحيرة. وأن تشارك مصر والسودان في خطة إدارة وتشغيل وصيانة السد وتوليد الطاقة الكهربائية التي ينتجها. أن تشارك مصر والسودان في خطة تسويق الطاقة الكهربائية التي ينتجها السد وسيكون لمصر دور محوري في هذا التسويق لا بالنسبة لهذا السد فحسب ولكن أيضا بالنسبة لأي عدد من السدود توافق الدول المشاركة علي إنشائها في المستقبل, ذلك لأن الدول المحيطة بإثيوبيا معظمها دول فقيرة وقدراتها المالية محدودة بينما تستطيع مصر عن طريق شبكتها الموحدة والتي ستصل في القريب العاجل بالشبكة الموحدة السعودية وربما بالشبكة الموحدة لدول خليجية أخري تستطيع أن تصل بالطاقة إلي ربوع الشرق الأوسط وجنوب أوروبا. أن تشارك مصر والسودان في ناتج بيع الطاقة إلي المستهلكين كل حسب المبالغ الإستثمارية التي ساهم بها في إقامة وإنشاء السد والمساهمة في نقل الطاقة وتسويقها. بقي أن نقول إنه ربما كان العرض الإثيوبي الذي جاء بسبب عدم القدرة علي التمويل الذاتي إنما كان بسبب الضغط المصري علي بعض الدول المؤثرة ماليا والتي تساعد إثيوبيا في تشييد السد وأيضا بسبب الضغط العربي السعودي الكويتي الإماراتي الفعال علي الجانب الإثيوبي بعد قيام ثورة يونيو وهو أحد النتائج المباشرة لقيامها. خبير مياه لمزيد من مقالات د. ضياء الدين القوصي