من البيئة الآمنة التي يعيشها في منزله والتي تحقق له الحماية والرعاية, ينتقل الطفل في عمر ماقبل المدرسة من3-6 بعيدا عن حضن أسرته الدافيء إلي عالم الروضة الغريب عنه والغامض, والذي يزعجه ويوتره يؤذيه ويشعره بالخوف الزائد, بل ويصيبه بالأزمة- أو بالصدمة- النفسية الثالثة بعد صدمته الأولي بخروجه من رحم أمه الآمن, والثانية بالفطام وتركه لثديها, فكيف نساعد الطفل علي تخطي هذه الصدمة الثالثة؟ فكما يؤكد د.جمال شفيق أحمد أستاذ علم النفس الإكلينيكي ورئيس قسم الدراسات النفسية للأطفال بمعهد الدراسات العليا للطفولة جامعة عين شمس: من الثابت علميا أن إلحاق الأطفال بمرحلة رياض الأطفال يساعدهم ويفيدهم بدرجة كبيرة في تنمية جوانب نموهم النفسي والجسمي والعقلي والحركي والإدراكي واللغوي, كما يساهم في تطوير قدراتهم وميولهم وتحقيق توافقهم الشخصي والاجتماعي, ونظرا لأن الأطفال يلتحقون برياض الأطفال في مراحل نموهم التي تتحدد فيها أسس شخصياتهم وملامحها, فإن أي خبرات لهم في هذه المرحلة المبكرة يمكن أن تترك بصماتها وآثارها الإيجابية أو السلبية علي أحوالهم وسلوكياتهم وشخصياتهم. ولا يقتصر هذا التأثير علي هذه المرحلة فقط إنما يستمر طوال حياتهم. وبالرغم من الفوائد العظيمة لذهاب الطفل إلي الروضة, إلا أنها قد تتسبب له في الأزمة النفسية الثالثة أو صدمة الذهاب إلي الروضة التي قد تؤثر علي مستقبله وحياته, خاصة وقد تعرض من قبل أثناء ميلاده للأزمة النفسية الأولي: والتي تعرف بأزمة الميلاد, عندما واجه العالم الخارجي المختلف تماما عن رحم أمه الذي عاش فيه وتمتع لمدة تسعة أشهر, وتعرض من بعدها للأزمة النفسية الثانية: وهي أزمة الفطام والتي شعر فيها بالأذي عندما توقفت أمه عن إرضاعه فجأة بعدما كان يعتمد علي غذائها وحنانها أثناء عملية إرضاعه, أما الأزمة النفسية الثالثة: فهي الأشد قسوة علي طفل الروضة لأنه يكون في مرحله أكثر وعيا وإدراكا عن ذي قبل, وتبدأ الأزمة عندما يشعر بالارتباك منذ اللحظة الأولي لدخوله من باب الروضة, فيري كل شيء من حوله غريبا وجديدا عليه ولم يألفه أو يخبره من قبل, كما أن الروضة شديدة الإتساع إذا ما قورنت بالمنزل الذي يعيش فيه, وبداخلها غرف كثيرة وأشخاص كثيرون غرباء لا يعرفونه ولا يعرفهم, فكيف سيتعامل معهم؟ كما أن هذا المكان ليس ناديا إنما بيئة منضبطة تحكمها نظم وقواعد وضوابط في التعامل مع المشرفة والمعلمة والأقران, كما أن هناك مواعيد لكل نشاط والتزام ونظام للفصل وللحصة وللواجبات المدرسية, وأن عليه وحده تحمل مسئولياته دون دعم من أسرته أو إخوته الكبار الذين كانوا يرعونه ويدافعون عنه سواء كان علي حق أو علي باطل داخل المنزل أو خارجه, وهنا تشتد حدة الأزمة الثالثة فيشعر بمزيد من الأذي والتوتر وتنتابه حالات من الانزعاج والخوف والاضطراب, فلا يستطيع التفاهم أو التواصل أو التعامل مع المحيطين مما يزيد من مشاعر الخوف وعدم الأمان لديه, وقد تظهر عليه بعض الأعراض المرضية مثل التأتأة أو التلعثم في الكلام, أو التبول اللا إرادي, أو فقدان الشهية للطعام, أو المغص أو الصداع والسخونة, أو ربما برودة بالأطراف. وقد نجد هذا الطفل ينخرط في حالة من الصراخ والبكاء الشديدين دون وجود سبب بعينه. ولاجتياز الطفل الأزمة النفسية الثالثة وحتي يتعداها ويصل إلي مرحلة الأمان, يري د.جمال شفيق أنه علي الأم وحدها تقع هذه المسئولية التي تمسها هي نفسها, فعليها أن تعي أن ذهاب طفلها إلي الروضة أمر مفرح ومبهج ولا يعني انزعاجا وحزنا علي فراقه لعدة ساعات في اليوم, بل معناه وببساطة أن صغيرها قد كبر وأصبح علي أولي أعتاب سلم العلم الذي سيفتح له أفاق المستقبل والنجاح, فلا داعي أن تظهر له تعلقها الزائد به أو خوفها المبالغ فيه عليه, ومهمتها الأولي تتلخص في أن تبعث إليه برسالة غير مباشرة تفيد أن ذهابه إلي الروضة هو أكبر مكافأة وجائزة علي حسن أدبه وطاعته داخل الأسرة, كما أنها دليل علي ذكائه وحسن أدائه لما يطلب منه, ولذلك وجب تهيئته وإعداده لدخول الروضة قبل موعدها بوقت قصير بقراءة القصص التي ترغبه وتحببه فيها. ومن المفيد توضيح كيف أن الروضة مكان جميل يسهل فيه ممارسة كثير من الألعاب التي يصعب ممارستها في المنزل كالمراجيح والزحاليق, وأن فيها كثير من الأصدقاء في مثل عمره سيشاركونه الألعاب والمسابقات وسيحصلون جميعا علي الجوائز دون إستثناء, وفي حدائقها المبهجة سيجد الحرية التي يبحث عنها وسيتعامل باستقلالية واعتمادية تامة بعيدا عن تسلط الكبار, كما أن في هذا المكان الجميل المسمي بالروضة ستكون لديه أشياء تخصه وحده, كالحقيبة والقلم والمسطرة والممحاة والبراية. كذلك علي جميع الأمهات مراعاة الانسحاب التدريجي عند اصطحاب أطفالهن إلي الروضة في الأسبوع الأول, وعدم تعويدهم علي التواجد معهم طول اليوم, أيضا عدم الاستسلام إليهم في حالة الصراخ والبكاء ورفض الذهاب إليها, وضرورة مناقشتهم بالصبر وإقناعهم بأهمية الروضة ومزاياها, وعلي الأمهات مراعاة التواجد أمام الأبواب قبل مواعيد الانصراف بوقت كاف حتي لا يشعر الأطفال بالخوف من الضياع في كل مرة يذهبون فيها إليها, وعلي الأمهات احترام إنسانية وطفولة وشخصية الصغار والاهتمام بالإنصات إليهم وسماع المشكلات التي تواجههم في الروضة والإجابة عن جميع استفساراتهم بأسلوب بسيط ومنطقي يناسب قدراتهم وأعمارهم.. وأخيرا يؤكد د.جمال أهمية تدريب الكوادر للتعامل السليم مع أطفال الروضة وفهم احتياجاتهم ومتطلباتهم وسبل إشباعها وتحقيقها والحرص علي تطبيق البرامج الأسبوعية التمهيدية والتربوية السليمة لمرحلة الروضة, والتي تدعم حبهم الروضة لدي جميع الأطفال وتخفف من مشاعر الخوف والرهبة والغربة لديهم, وتبث الطمأنينة والراحة والألفة في نفوسهم وقلوبهم الصغيرة, أيضا لا نستطيع تجاهل ضرورة احترام وعلاج مشاعر الخوف والقلق لدي أولياء الأمور حتي يستطيعوا بدورهم نزعه من قلوب أبنائهم- ففاقد الشيء لا يعطيه- والأولي أن يطمئن الآباء للروضة.. حتي يطمئن الأبناء بدورهم إليها.