لم يصل أي من المدعوين إلي حفل عيد الميلاد السبعين للدكتور درويش, أو عيد الميلاد الحادي والعشرين لحفيدته سلمي في موعده مطلقا.. تقطعت وتقاطعت مصائرهم, وكان مستحيلا أن يتجمعوا من كل أركان الأرض في بروكلين. وبدا وكأن هناك قوي خفية تحول دون لقائهم المستحيل. هذا اللقاء المستحيل هو الفضاء الذي يتحرك عبره عز الدين شكري في روايته عناق عند جسر بروكلين الصادرة عن دار العين, واختارتها لجنة جائزة البوكر أخيرا في قائمتها الطويلة.. والحقيقة أن الكاتب تمرس طويلا, فهذه هي روايته الخامسة التي يعبر من خلالها الحدود, ويعزف لحنا آخر هناك في نيويورك, ويواصل اكتشاف وتجريب عوالم جديدة, بعد أن حقق انجازات مهمة في أعماله التي تناولت واقع جماعات الإسلام السياسي, علي نحو لم يحققه أي كاتب. أبادر إلي القول إنني منحاز لهذا الكاتب, فهو يشتبك ويتورط مع الهموم السياسية والاجتماعية المباشرة, ومع ذلك فإن أعماله تنجو دائما من المهالك التي تحيط علي الأغلب بهذا التورط, فهو قادر بحساسية ودربة علي أن يتيح الفرصة لشخوصه ليتنفسوا ويعيشوا ويصنعوا مصائرهم وفق منطق العمل الروائي, وليس وفق منطق الواقع. واللقاء المستحيل في الرواية كان كما أعد له الدكتور درويش مقررا أن يضم, إلي جانب الأخير, رامي المصري المهاجر, ويوسف بن درويش, وداود الفلسطيني المهاجر أيضا, والدكتور لقمان والد سلمي, وعدنان قريب درويش, ورباب العمري, إحدي الصديقات, هذا فضلا عن سلمي التي يفرد لها الكاتب الفصل الأخير. تدور كل أحداث الرواية, في تلك الساعات القليلة السابقة علي الحفل المستحيل, ويتيح الكاتب لكل شخصية أن تحكي روايتها وتعزف لحنها, ومن الألحان المنفردة المتقاطعة, تتشكل الرواية, لا بداية ولا نهاية ولا شيء يمكن التيقن منه.. ولعل أهم إنجازات هذا العمل الفاتن المحكم كتابة ثمانية أعمال روائية قصيرة, وفي صفحات قليلة, فإن الكاتب قادر علي التكثيف والتلخيص غير المخل واللجوء لغير العادي في التناول. ربما باستثناء رواية داود زوج خالة سلمي, وهو فلسطيني يحلم بدمار من تسببوا في ضياعه واستولوا علي وطنه بعد أن ذبحوا أهله, باستثناء هذه الرواية المتعجلة وغير المعتني بها, فإن الروايات السبع الباقية, سواء كانت مكتوبة بضمير الغائب أو الأنا, صاغت في نهاية الأمر لوحة كبري للألم والحب والموت, والأهم للغربة وعدم التحقق واكتشاف الخدعة التي اشترك الجميع في الوقوع ضحية لها. وإذا كانت كل رواية تحكي ما يخصها داخل اللوحة الكبري, أي علاقة هذا الجزء أو ذاك بباقي الأجزاء, فإن الكاتب بكل تؤدة ورهافة منح قارئه تنوعا مدهشا وحيوية فائقة بسهولة ويسر, فكل رواية وكل شخصية وكل واقعة مشتركة يحكيها الجميع, فإن كل حكاية مختلفة, وهناك دائما سوء تفاهم ولبس قد يصل إلي حد العبث, ويحول في النهاية دونهم ودون اللقاء. فالدكتور درويش, بعد أن عرف أنه مريض بالسرطان وعلي وشك الرحيل, قرر أن يلتقي كل هؤلاء في لقاء أخير, وعلي الرغم من ترحيب كل منهم ورغبته الحقيقية في حضور حفل عيد الميلاد, فإن كلا منهم يفشل في الوصول, ربما تموت سلمي مثلا قبل أن تصل, ويضيع رامي المصري, وتتعثر رباب العمري, ويفقد يوسف طريقه.. لا أحد يصل في موعده, وربما لن يصل أحد مطلقا. لا يكتب عز الدين شكري روايته, بل يتيح الفرصة لكل الأصوات والضمائر أن تحكي حكايتها, وينسج كل الحكايات في ضفيرة واحدة, فهو يتيح مثلا للدكتور لقمان أن يحكي حكايته وهو في طريقه لحضور حفل عيد ميلاد ابنته التي انفصل عن أمها منذ عدة سنوات, وفي بروكلين يلتقي بالصدفة بحبيبته الهولندية ماريك التي انفصل عنها أيضا.. أما رامي المهاجر المصري الذي قضي عمره يكدح لتربية ابنتيه الأمريكيتين, فيكتشف فجأة أنه لا يعرف كيف يتحدث معهما, وينتهي به الأمر إلي الطلاق والتشرد وربما الموت. وهكذا تأخذ كل رواية من الروايات الثماني نصيبها من المتاهة والضياع وسوء الفهم والعبث, ولا ينجح أي من المدعوين في الوصول مطلقا.. وهكذا أيضا صاغ شكري واحدة من رواياته الفاتنة المنغمسة في الواقع بكل خشونته, والناجية في الوقت نفسه من جهارة الصوت أو محاكاة الواقع.