هذا العام تمر خمسة وسبعون عاما علي صدور كتاب الدكتور طه حسين مستقبل الثقافة في مصر وتقريبا مثلها تمر علي قصيدة بيرم التونسي العامية هاتجن ياريت ياخوانا مرحتش لندن ولا باريس. ولايزال الكتاب والقصيدة صالحين تماما للتعامل مع مشكلات مصر المعاصرة لدي النخبة ولدي العامة علي السواء. وكأن خمسة وسبعين عاما دارت من حولنا ولم تخترق حياتنا فلم تترك فينا سوي قشور من مدنية زائفة. فلا التعليم انصلح حاله ولا اختفت السلوكيات الشعبية التي أصابت بيرم التونسي بالجنون حين زار لندن وباريس قبل تسعين عاما. حالة الركود التاريخي في مصر ليست بعيدة عن مرض أعم وهو الركود السياسي. مرة أخري أعود لنيال فيرجسون أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد في محاضرته القيمة ومحاولته الإجابة علي سؤال لماذا تقدمت بريطانيا وتخلفت مصر. الإجابة باختصار في كتاب لماذا تفشل الأمم أن الإنجليز امتلكوا أمرهم وأخضعوا الملك لسلطانهم وانتزعوا حقوقهم السياسية التي حولوها إلي فرص عظيمة للكسب الاقتصادي فظهرت بريطانيا العظمي. قلة قليلة من السكان تسيطر علي أغلبية هائلة من سكان العالم. أما مصر التي عرفت تكوين الإمبراطوريات قبل بريطانيا بآلاف السنين, فقد تعاقبت عليها نخب سياسية كانت كل واحدة منها تمهد التربة لمصالحها وأعوانها تاركين رعاياهم في ركودهم الطويل فانتشر الفقر وتدهورت حياتهم. لم يحصل المصريون يوما علي حقوق سياسية حقيقية. قال فيرجسون ذلك قبل أن يعزل المصريون الدكتور محمد مرسي رئيسهم الذي انتخبوه. فقد سار علي نهج كل الذين سبقوه في سدة الحكم. مشكلة محمد مرسي وجماعته أنهم كالعادة استعجلوا كل شيء وحرثوا التربة لزراعة الأعوان حتي تبقي الجماعة في حكم البلاد سنوات طويلة. جاء مرسي بعد ثورة طالبت بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. لكنه لم يفعل شيئا واحدا من أجل هذه المطالب وانشغل تماما بتمكين جماعته. قد تبدو مصر اليوم علي السطح في حالة من الحركة والديناميكية. ولكنها ديناميكية تصنعها علي الطرفين عدة مئات من الألوف تلمع تحت أضواء كاميرات التليفزيون وعدسات مصوري الصحف. ولكن تحت السطح ركود تاريخي لم ينقطع. فلا يزال كل شيء علي حاله. حكومة تلو أخري تجد العزاء في وصفها بالانتقالية مثلما أفلحت حكومات أخري في وصف كل لحظة في حياتنا من قبل بأنها تاريخية. الحكومة الحالية وعدت بأنها حكومة مؤسسة لانطلاقة شاملة في كل مناحي الحياة ولكنها أثبتت أنها تؤسس لمرحلة أخري من الركود الطويل. حكومات استغلت سذاجة وتواضع أحلام المصريين في رغيف من الخبز وقطعة من اللحم وهي مطالب اختفت من قوائم المطالب الشعبية في معظم دول العالم. لم تمتد بعد يد واحدة لإصلاح شيء من التعليم وتقويم اشياء من السلوك المصري المعوج في شوارع القري والمدن علي السواء مثلما نبه طه حسين أو صرخ بيرم التونسي قبل خمسة وسبعين عاما. الركود السياسي حول مصر إلي مجتمع متظالم كلنا يشكو الظلم وليس منا من يريد أن يعترف بأنه مارس الظلم علي غيره حتي ولو بالسير عكس الاتجاه. وفي الوقت الذي نعاني فيه ركودا وتظالما تاريخيين لايزال ضيوف المصاطب الإلكترونية علي شاشات التليفزيون يبشروننا بأننا شعب عظيم لديه اضعاف ما لدي شعوب الأرض من وعي. هؤلاء يرتكبون أعظم الجرائم في حق مصر حين يخدرون إحساسنا بالواقع بدلا من حفزنا لفهمه والعمل علي تغييره. الذين اتهموا طه حسين بأنه يريد لمصر أن تلحق بالغرب الأدني وتتنكر لحضارة الشرق الأقصي اكتشفوا أنه بعد خمسة وسبعين عاما لم تجن مصر عنب الغرب ولا بلح الشرق. ففي الشرق الأقصي أمم نهضت وفي الغرب الأدني شعوب تصنع للعالم اليوم حضارته القائمة والقادمة. حين صدر مستقبل الثقافة في مصر كانت شعوب الشرق الأقصي ترزح تحت وطأة الفقر والعوز والتخلف. أما اليوم فهي تنافس بشدة من تعلموا منهم. أما إذا جاء الحديث عن إصلاح التعليم استلقينا في مجالسنا علي المقاعد نكرر الحديث فيه ولانفعله. ولو أننا فعلنا ذلك ما جاء عام2013 بشباب تستهويه أفكار بالية جاء بها حفارو القبور من بطون التاريخ البعيد وأقنعوهم بالموت دونها. ولو أننا حاولنا إصلاح التعليم ماجاءت مواقع التواصل الاجتماعي وهي أحدث إبداعات تكنولوجيا الاتصال لتحمل أسوأ ما في لغتنا وأحط ما في عقولنا وأخطر ما يهدد وجودنا. ليت للبراق عينا تلمح قضية واحدة فقط بين ركام قضايانا المزمنة فتدرسها وتنفض الغبار الراكد من فوقها وتجمع اصحاب الهمم الرفيعة والخبرة الواسعة حولها وتنطلق بها إلي ما بلغته الدنيا بشأنها من حولنا. ربما تبعث تلك المحاولة همم آخرين بشأن قضايا أخري. ونكسب من الحكومة الانتقالية حلا ناجعا لقضية واحدة وهو أقصي ما نطلبه من تلك الحكومة. ترسانة الجباية الحكومية مترعة وهي بحاجة إلي من يرفق بهذا الشعب من ظلمها. تنقية تلك الترسانة القانونية من الظلم ليس بالعمل الشاق يا دكتور ببلاوي. ففي هذه الترسانة ما يجبر مواطنا مصريا يريد وصلة تيار كهربي مؤقتة علي أن يدفع عشرة آلاف جنيه لإعادة رصيف ترابي متهالك محفور تملؤه القمامة إلي أصله المنصوص عليه في أوراق الحكومة التي تقول إنه مرصوف برخام مزعوم. وفي هذه الترسانة مظالم كثيرة جعلتنا وبحق مجتمعا راكدا لم يجن من الركود سوي التظالم. لمزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين