غالبا ما يتبع موسم الطاعات فتور وتراخ في العبادة, نلمس ذلك بعد صيام رمضان, ونلمسه أيضا بعد موسم الحج, ودائما ما نسأل أنفسنا عقب كل فريضة: وماذا بعد.. ونعود لنسأل.. وماذا بعد الحج؟ وهل انتهي دور المسلم الحاج بأداء المناسك وتمام رحلة الحج فحسب؟ وماذا عساه أن يفعل حتي يحافظ علي المكتسبات والروحانيات التي تمتع بها أثناء أداء الفريضة ؟ علماء الدين يؤكدون أن الحج بداية لصفحة ناصعة بيضاء مع الله عز وجل سطرتها فيوضات المشهد العظيم, ودعوا إلي الحفاظ علي مكتسبات الحج, مشيرين إلي أن الحج فريضة حافلة بالقيم والآداب والمثل التي يجب الحفاظ عليها لكونها ركيزة للمسلم فيما بقي له من عمره. يقول الدكتور ناصر محمود وهدان, أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بجامعة قناة السويس, إن المسلم الذي أكرمه الله وكتب له أداء فريضة الحج عليه أولا أن يحمد الله أن وفقه وأعانه علي هذا الخير الكبير, فكم من أناس توافرت لديهم مقومات الحج المادية والبدنية ودفعهم الحرص وطول الأمل إلي عدم التوفيق لأداء تلك الفريضة, بل شغلتهم أموالهم وأهلوهم, وظلوا في تسويف من أمرهم إلي أن باغتهم الموت وقبضوا علي غير أداء ركن الإسلام الخامس وهو الحج, رغم الاستطاعة. وليس أقل في شكر المنعم علي هذه النعمة العظيمة من أن يحافظ العبد علي هذا الخير, بأن يوازن بين أمور الدنيا والآخرة, فلا ينسيه السعي لكسب العيش الغاية التي خلق لأجلها وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وليحرص الحاج بيت الله الحرام علي أن يكون في سلوكه نموذجا حقا للمسلم الصادق مع الله المحافظ علي عهده معه ووعده له, فالعبد الذي تجرد من الدنيا وزينتها وسلك تلك الرحلة الشاقة وهرول إلي ربه مجيبا لبيك اللهم لبيك, عليه أن يكون بعد عودته حقا, نعم العبد الطائع المجيب, وأن يكون عبدا ربانيا يعبد الله بحق في كل وقت وليس عبدا موسميا, ينشط حينا ويتراخي أحيانا. ويحذر الدكتور ناصر وهدان, الحاج من أن يكون ممن وصفهم النبي صلي الله عليه وسلم بالمفلس في قوله حينما سأل بعض الصحابة أتدرون من المفلس..؟, وعاد رسولنا الكريم ليوضح أن المفلس من أمته عليه الصلاة والسلام هو الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وحج, ويأتي وقد ضرب هذا وشتم هذا وهتك عرض هذا..فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته, حتي إذا فنيت حسناته أخذوا من سيئاته فطرحت عليه ثم طرح في النار, فالمسلم قد يطرح في النار رغم حجه إذا لم يكترث ووقع في تلك الذنوب والمعاصي, لذا فعليه أن يكون فطنا حذرا وأن يحرص علي ما ينفعه دائما. علامات القبول ويشير الدكتور حلمي عبد الرءوف, أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر, إلي أن العائد من الحج يجب أن يعلم أن التزامه بعد الحج هو خير علامة علي قبول حجه بإذن الله, لذا فعلي المسلم أن يحافظ علي مكتسبات الحج بأن يتغير سلوكه وأخلاقه مع الله ومع الناس إلي الأفضل دائما, من خوف الله ومراقبته, وأن يستحضر دائما جميع القيم التي جسدتها مشاعر فريضة الحج من صدق وإخلاص وحسن توكل علي الله, وأن يجعل الدنيا في يده لا في قلبه, يسخر دنياه لآخرته, وأن يتخلي عن الضغائن والأحقاد, ويتصالح مع نفسه ومع الله أولا ومع الناس, وأن يعلم يقينا لا قولا أن الدنيا دار ممر, وأن الآخرة هي دار المقر الحقيقية, وليسرع للعمل في دار ممره إلي دار مقره. ويحذر الدكتور حلمي عبد الرءوف من أن يغتر المسلم برحمة الله, فيما يقدمه لنا من منح, فليس معني قول النبي صلي الله عليه وسلم من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه, وكذا قوله العمرة إلي العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.. ليس معني ذلك أن يفرط الإنسان, لاسيما القادر ماديا, ويستهين طوال العام استنادا إلي أنه سيعتمر أو يحج مرة أخري العام المقبل أو بعد شهرين مثلا, ومن ثم تمحي ما يقترفه من ذنوب في تلك الفترة..فمن يدريه أنه سيحيا إلي الوقت الذي سيحج أو يعتمر فيه, ومن يدريه أنه إن أدركه الوقت سيوفق إلي الحج أو العمرة, وما يدريه أيضا إن أدركه الوقت وذهب بالفعل إلي الأراضي المقدسة أنه ستقبل حجته أو عمرته, كل هذه أمور غيبية لا يعلمها إلا الله. وعلينا ألا ننسي دائما أن ملك الموت لا يستأذن أحدا ولا يعرف مناصب ولا أصحاب أموال, لأنه إذا صدر إليه الأمر أن اقبض روح فلان قبضها علي الفور في اليقظة كان أو في المنام, لا يفرق لديه إذا كان من صدر بحقه الأمر, رجلا أو امرأة, صغيرا أو كبيرا, صحيحا أو مريضا, غنيا أو فقيرا. لذا, فالحاج بعد عودته عليه أن يراجع نفسه ويراقبها ويدفعها دائما إلي الطاعة ويقومها إلي الخير, وأن يستذكر شريط حياته فإن كان مازالت بينه وبين أحد مظلمة فليتحلل منها,وأن تعلو لديه قيمة العفو والتسامح لعباد الله, وعليه أن يكون نموذجا حيا للمسلم الملتزم الذي تغير فيه أوامر الله, وأن يكون رضا الله ورسوله هو هدفه الاسمي في كل تصرفاته مهما كلفه ذلك.