كما أن المشهد الدولي الراهن, يؤكد أن الولاياتالمتحدة أصبحت تسير إلي الخلف, فإنه ايضا يؤكد وجود قوي أخري موازية تسير بسرعة كبيرة وبخطوات واثقة لمليء الفراغ الذي تخلفه وراءها القوي الأمريكية العظمي, ليس في منطقة الشرق الأوسط فحسب بل في العالم بأسره, بوتين الذي يوصف بأنه وريث القيصر بطرس الكبير, مؤسس روسيا الحديثة, فرض نفسه أخيرا كقائد دولي يستطيع أن يقدم في اللحظات الأخيرة, وعندما تخرج الأمور عن السيطرة, طوق النجاة لكل الغارقين في الغرور سواء في واشنطن أو في دمشق, ومعه يقدم روسيا الجديدة كحليف جدير بالثقة في شرق أوسط مضطرب. في عالم تسيطر عليه الفوضي والضبابية, يبدو ان الشعوب أصبحت- بعكس ما تنبأ به الكثير من المنظرين, تبحث عن أشخاص يمتلكون قوة اتخاذ القرار والكاريزما لتسير وراءهم وتسلمهم واثقة مقاليد الأمور, وبقدر ما يبدو قيصر روسيا الجديد من منظور الليبراليين الغربيين, ليس تماما بالرجل المخلص للديمقراطية, لكنه بلا شك رجل المواقف الصلبة والتوجهات الواضحة. هذا الواقع الجديد الذي فرضه بوتين علي المجتمع الدولي وجعله يعترف ضمنا بأن روسيا هي الأكثر قدرة علي سد الفراغ الذي تركه غياب دور واضح المعالم للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط, لقد اثبتت انها الدولة الوحيدة القادرة علي إبقاء نظام الملالي الإيراني هادئا وتحت السيطرة, بعيدا عن تهديدات قوي متذبذبة, ففي السياسية الدولية لن تثق الدول في التعامل مع غرور البيت الأبيض المتزايد, وفي أوقات الفوضي الكبري, يظل التعاون مع حليف قوي وثابت, أهم عناصر البقاء. روسيا بوتين اليوم, ليست قوة امبريالية, كما اعتدنا النظر الي الإمبراطورية الروسية التوسعية, لكنها قوة عملية واقعية, كما أنها وإن كانت تسير علي خطي القياصرة, إلا انها وبوضوح لا تعمد إلي استخدام القوة, بل تسعي بدلا منها إلي إكتساب ثقل دولي, وتحقيق مكاسب اقتصادية, مع احترام منافسيها الدوليين وابرزهم الصين. كان الربيع العربي من وجهة نظر الكرملين صداع لا يمكن تحمله, ولا يجب إستمراره, لكنها مع هذا اضطرت للتعامل مع تبعاته, وقد حاولت روسيا الضرب علي جميع الأوتار في انحاء الشرق الأوسط, حقيقة انها لم تتمكن من إيقاف تدخل الناتو عام2011 للإطاحة بمعمر القذافي, وانها تحملت بقدر كبير من العناد ما واجهته من شجب من قبل أصدقائها السابقين في العالم العربي, لدعمها المتواصل لنظام بشار الاسد, الا انها في هذه الاثناء كانت تواصل وبهدوء بناء جسور تواصلها من القاهرة الي بيروت وبطبيعة الحال دمشق لتكون مستعدة في اللحظات المناسبة للتدخل, خاصة بعد ان لاحظ رجل الكي جي بي السابق, ما بدا بوضوح من ان الولاياتالمتحدة بقيادة اوباما هي في اضعف مراحل تاريخها, مع قرارت سياسية مترددة, وإدارة بلا عهد, وتخبط مرير في تقديم التصريح المناسب في الوقت المناسب. بضربة واحدة, تمكن بوتين من حماية الأسد من ضربة عسكرية أمريكية وشيكة, وتمكن من تقديم نفسه باعتباره الشخص الوحيد علي الساحة الدولية القادر علي تحقيق انفراجة في الأزمة السورية المستعصية, ووفقا لفيودور لوكيانوف, رئيس تحرير صحيفة روسيا للشئون الدولية, فإن الرئيس الأمريكي, يستخدم كلمات قوية في الوقت الذي يعبر وجه عن أنه لا يعرف فعلا ماذا عليه أن يفعل, وفي مثل هذه الأوقات الحرجة, يبدو أن علي شخص ما تقديم المبادرات المناسبة, في الوقت الذي يسير فيه الغرب وراء التخبط الامريكي, بلا حول ولا قوة, بدا النجاح الروسي في احتواء ازمة الأسلحة الكيميائية السورية, وكأنه هدية غير منتظرة لحماية الغرب من فشله, وتجنيب المنطقة ويلات فشل امريكي جديد, كان من شأنه أن يكون أشد وطأة وتدميرا من الفشل المتواصل في العراق, أو هكذا يعتقد الكثير من المحللين. في مصر حمل المؤيديين لانتصار الإرداة الشعبية في30 يونيو, صورا لبوتين مجاورة للفريق السيسي وجمال عبد الناصر, كتب عليها وداعا أمريكا, وكان هذا بحق تعبيرا شعبيا من أكبر دول المنطقة, علي قبول روسيا من جديد, لتكون الحليف المنتظر, حيث كانت التصريحات الروسية عقب التصريحات المتخبطة من واشنطن, دليلا علي ان هناك قوة عظمي تستطيع ان تري الأمور بوضوح, والمصريين لا ينسوا أبدا مواقف الرجال, وهو ما تمثل في عروضا روسية لبناء جسور التعاون ليس فقط العسكري ولكن أيضا الاقتصادي, انه التدخل لحل المشاكل بطرق سلمية دون تشويش بعيدا عن أشكال التدخل الفاشل التي أبداها البيت الأبيض والغرب, ويمكن الإجماع علي أن الشارع العربي في نهاية المطاف يحترم من يعرف علي الأقل ما يريد, بدلا من غربا تابع وإدارة امريكية مرتبكة, ومخاوف منطقية من أن سياسة أوباما في الشرق الأوسط اصبحت خارجة عن السيطرة وسوف يكون علي روسيا في نهاية المطاف التدخل للانقاذ, في حين تتطلع مصر الي التأكيد علي استقلالها عن الولاياتالمتحدة, ووفقا للمحللين, انه التوقيت المنطقي لعقد هذا التحالف الجديد, وكما يتنبأ كوانت, فإن السنوات القليلة المقبلة ستشهد الكثير من التحالفات الجديدة مع روسيا. ويصف فيودور لوكيانوف كيف ينظر الشعب الروسي إلي أمريكا, وهو مدير خزان الفكر الروسي البارز مجلس السياسات الخارجية والدفاع في روسيا ينظر الي الولاياتالمتحدة علي نحو متزايد باعتبارها مصدرا لزعزعة الاستقرار العالمي, حيث يقول لقد راقب الروس حرج ادارة اوباما في واحدة من اسوء سبل سوء ادارة الازمات في الشرق الاوسط مرة تلو الاخري, من ليبيا الي مصر ثم سوريا, ويري لوكيانوف ان روسيا لا يمكنها التعامل مع هذا الشريك المرتبك لانه سيؤثر سلب علي مستقبل روسيا وسيعرضها هي الاخري لتهديد الإسلام المتطرف. الواقع أن واحدة من أهم المبرارات التي تدفع روسيا للتدخل بعمق لموازنة الأمور في الشرق الأوسط الذي خرج فيه عنف الجماعات الإرهابية عن عقاله بعد ثورات ما سمي بالربيع العربي. فمن المعروف ان حدود روسيا الجنوبية الشرقية محاطة بالدول الإسلامية, وأن من10 الي15% من سكان موسكو حاليا من المسلمين, مما يجعلها أكبر مدينة بها تجمع من المسلمين في اوروبا بعد اسطنبول, ويري بعض الخبراء الديموغرافيين ان روسيا بحلول عام2050 ستكون دولة ذات اغلبية اسلامية, من ناحية اخري فقد حارب بوتين حربا دموية ضد الإسلام الراديكالي في الشيشان, تجنبا لظهور شيشان جدد داخل روسيا الأم, وهو ما يظل يؤرق الكرملين, ويدفع بوتين الي الإبقاء علي تعاون ملزم مع الجارة طهران, وعلاقات ودية مع الملالي هناك, اضافة الي مخاوف من ان ينضم الشيشان المسلمين الي الجهاديين في سوريا. اضافة الي مجمل مصالحها في محاربة الإرهاب والاسلام الراديكالي في المنطقة, الذي يهدد بعدم الاستقرار في شمال القوقاز, ومع توغله في دول ما بعد الثورات العربية, مما أصبح يهدد النظم الليبرالية الهشة في آسيا الوسطي. في الوقت الذي يحرص فيه اوباما, علي تقويض الأنظمة العربية وانهاء ما تبقي بها من ملامح استقرار, والعمل يوما تلو الاخر علي تشجيع الجماعات الإسلامية المتطرفة وعلي رأسهم جماعة الإخوان, بل لقد وصل الأمر غلي عقد صفقات سرية لتسليح جهاديين تابعين للقاعدة, مما يدخل الولاياتالمتحدة في موجات المد والجزر المتأسلمة, فيما يبدو انه يأتي خارج اطار اي استراتيجية مدروسة ومنطقية, مما يدفع خصم امريكا السابق في الحرب الباردة, لان تكون أولويته القصوي هي كبح جماح الرئيس الأمريكي المشاكس قبل أن يتسبب في المزيد من الفوضي والضرر.