ربما كان من أكثر الكتب التي قرأتها قتامة, إن لم يكن أكثرها سوادا علي الإطلاق, لكنه أيضا من أمتع الروايات التي صدرت في السنين الأخيرة. من الغريب أن يشدك عمل كله جثث ومقابر وفورمالين من أوله لآخره, لكنه حدث. حدث أن شدني- أنا وغيري- هذا العمل فلم أستطع الفكاك منه حتي انتهي هو مني في نقطة النهاية. ولك يمين الله يا مؤمن إن كنت لم تقرأ العمل بعد- أن كل هذه الظلمة غير طيبة الرائحة مليئة بالشاعرية. نعم, بالشعر. ذلك أن قلوبا بشرية تخفق حول القبور وبداخلها. زحام من القلوب الحالمة تتنافس في سكني مترين من أرض القاهرة, في القبور المتكدسة في القاهرة القديمة. هناك حيث يتحول الأحياء إلي أموات من نوع ما, بالذات يتحول الإنسان الذكي الذي يسكن حوش مقبرة إلي حلم دفين.. ولكني لن أفسد الحدوتة. يكفي أن أقول لك يا صديقي, أو يا صديقتي القارئة, إن الحياة في المرحوم لحسن كمال( عن دار الشروق) اضطرت أن تختبئ في مشرحة القصر العيني هربا من مقابر الإمام, أو باختصار عدد هائل من التفاصيل الفاتنة- هربا من الموت.. للموت. هكذا استقر المرحوم, كما تعود الناس أن ينادوا بطل الرواية, عاملا ليليا في المشرحة, في ملكوت من الجثث لا يختلف كثيرا عن الحوش الذي تربي فيه, ومهنته الموروثة عن أبيه, الذي كان يساعده طفلا في دفن الجثث. لكن عوامل كثيرة منها الحب ومنها الخوف والشر- تطرده من عالمه القديم بعد أن تورط في القتل. وفي المشرحة تبدأ حكايته الجديدة, ويشاركه بطولتها طالب طب في الدارسات العليا, وهو في نفس الوقت محرر مجلة الكلية الذي يهوي تقديم نماذج من الحياة, كلها من عالم الكلية نفسها: موظفة الحسابات, صاحب الكشك المجاور... إلخ. يلتقي الطالب محمود مع المرحوم عامل المشرحة الليلي الذي يتعجب الجميع من أنه لا يخشي المبيت مع الجثث- فيصدم من ادعاء المرحوم أنه روح حرة تتلبس ما تختاره من جثث وترتديها وتعيش بها ريثما تؤدي مهمة تمليها عليه قوة عليا بما أنه كما يعتقد- صاحب رسالة. وطوال الوقت لا يسمح لنا الروائي بذكاء أن نصدق المرحوم تماما فيما يقول, أو نكذبه ونصدق محمود الطبيب علمي التوجه الذي درس حالة المرحوم وصار يميل ويتأكد ميله إلي أنه مجنون لا أكثر ولكنه مجنون نبيل ذو نزعة إنسانية. ولن أضيف حرفا إلي ما كتبت, لأن هناك أسرارا عليك أن تكتشفها بنفسك, وعليك أن تحكم أنت بنفسك علي ذلك الإنسان المعذب الذي يسميه الناس ويا للعجب المرحوم. فقط تذكر أن هذا العمل ليس عن الموت, إنه عن الحياة, في بلد فقير مزدحم بالأحلام والأشواق والخيبات. إن كل تلك الجثث وكل هذا الظلام تصنع فيما بينها حكاية من أشد الحكايات شوقا للخضرة والماء والوجه الحسن, إنها تحكي عن شعب مدفون حيا, ظامئ والنيل يجري عن كثب. لذلك قلت في البداية إنه شعر لا فيلم رعب. أحرضك علي قراءة حسن كمال, لأنه لسان حال عشرات الملايين من المصريين, يحكي ببلاغة دون صخب عن أشواق الجذر الحي إلي الضوء والنماء, تشعر في قلبك وأنت تقرؤه بملايين القلوب وصرخات الميلاد, الموءودة لكنها تعاند,.. كل ذلك تراه وتسمعه, تحسه وتشمه في هذيان مجنون بين الجثث المصطفة التي أخرجها من ثلاجاتها في مشرحة الليل, وقام فيها خطيبا, ومبشرا بالخلاص...