ما خسرته مصر علي مدي عقود من ثروات, إما بالنهب أو الإهمال, كان يكفي لإقامة مشروعات قومية كبيرة تعود بالنفع الكامل علي الوطن والمواطن, بشكل حقيقي غير وهمي كما حدث في مشروع توشكي الذي أنفقت مصر فيه أكثر من11 مليار جنيه, ذهبت أدراج الرياح التي تبلغ سرعتها في هذه المنطقة أكثر من200 كم في الساعة, في أغلب مواسمها كما تزيد درجة الحرارة فيها علي50درجة مئوية وأصبحت محطة دفع المياه التي دفعنا فيها أكثر من6 مليارات جنيه مرتعا للصدأ وللصوص وتجار الخردة. الدكتور محمد بهي عيسوي عالم الجيولوجيا, يري أن مشروع توشكي علي مدي عشرين عاما قد فشل, وعلي وزير الزراعة الحالي أن يفكر لماذا توقف المشروع منذ أكثر عشر سنوات, بعد أن أنفقت مصر عليه أكثر من11 مليار جنيه. لماذا فشل المشروع؟ فشل لأسباب متعددة منها ما هو خاص بالتربة( طفلة وحجر رملي وبازلت) وثلاثتها لا تصلح فيها الزراعة, إلا بتكلفة عالية جدا. كيف؟ تصلح فقط اذا تم خلطهابتربة صالحة للزراعة تجلب من مناطق أخري كبحيرات قديمة جفت, ومناطق أخري لتكوين تربة صالحة للزراعة وهو ما حدث في نفس المشروع في عدة مئات من الأفدنة, التي باعتها الدولة للأمير الوليد بن طلال وتحملت الدولة تكلفة نقل التربة وخلطها, التي وصلت الي ما يقرب من50 ألف جنيه للفدان, في الوقت الذي دفع الأمير للدولة مبلغ50 جنيها فقط ثمنا لهذا الفدان. كما أن من أهم مشاكل مشروع توشكي عدم وجود مصارف وهو ما يؤدي الي تمليح الأرض مرة أخري, فإن تم الصرف علي بعد كيلوات من موقع الأرض, فستزيد مياه الصرف بملوحتها مرة أخري, وان تم الري بالتنقيط فستتملح الأرض أو تزيد نسبة الملوحة لان كل أنواع الزراعة تحتاج الي صرف ولان مياه الصرف مالحة فلابد من صرفها والا ستملح التربة وهو ما حدث في مناطق أخري في مصر. يجب أن نتعظ مما حدث في مشروعات مشابهة مثل واحات الوادي الجديد وواحات العرج ونوميسة وبحرين وسترة, وهو ما يحدث في سيوة الآن حيث بدأت المساحة الزراعية في التقلص بسبب التمليح وبعض الأشجار والنخيل ماتت أو احترقت. وهل هناك أسباب أخري؟ طبعا السبب الثالث وهو مهلك, وستكون نتائجه السلبية ليست فقط علي نفس المشروع ولكنها ستمتد الي الوادي والدلتا, وهو الجراد, الذي هاجمنا قبل عام وزحف حتي وصل الي فلسطين مرورا بالقاهرة, وأهلك زراعات كثيرة خجلت الحكومة من الإعلان عن حجم خسائرها. ولكن وزارة الزراعة وعددا من المسئولين في وزارات أخري تحدثوا عن الريح كسبب لمرور الجراد؟ هذا كذب مفتري وهم يعلمون أنه غير صحيح, فالرياح في مصر شمالية جنوبية أي أنها تهب من الشمال باتجاه الجنوب أي ضد حركة الجراد التي تجيء من الجنوب وموطنه الأصلي السودان, ولم نكن نراه أو نشعر به سابقا لخلو المسافة من حلفا الي أسوان وتصل الي300 كم تعامدا علي حدودنا الشرقية من البحر الأحمر وحتي الغربية عند الحدود مع ليبيا, حيث تخلو هذه المنطقة من أي زراعات ولكون هذه المساحة صحراء تهلك الجراد المتجه الينا من السودان لعدم توفر الغذاء, ولكن زراعة بضع مئات من الأفدنة العام الماضي وفر له الغذاء فاستطاع مواصلة رحلته حتي أسوان ثم شمالا وطوال الرحلة يتغذي علي الزراعات كلما جاع. وعلي ذلك؟ علي ذلك تكون هذه الأسباب الثلاثة كفيلة بكف من يحاول ايهام الشعب بالمستقبل الأفضل والخير الوفير وغيرها من الأحلام التي تخدر الشعوب, ولا أعتقد أن متخصصا واحدا في مصر يقول غير ذلك, وبالتالي فعلي الوزير ألا يتحدث من مكتبه للصحافة, وألا يتخذ خطوات تضاعف من خسارتنا في هذه المنطقة عليه أن يشكل لجانا من العلماء المتخصصين, ونؤكد المتخصصين بالفعل في هذه المجالات حتي تقرر فأموال البلاد ليست مباحة ولا يجب أن تظل مباحة يتصرف فيها أي مسئول علي هواه بما لا يتوافق مع مصلحة الشعب ولا مصلحة البلد. ولكن البلاد تحتاج الي التوسع الأفقي في الزراعة لتعويض ما استهلكته المباني ومواجهة الزيادة في الاستهلاك؟ بالفعل هذا ما نحتاجه وأيضا نحتاج الي مشروعات تصنيع زراعي, ولكن ذلك كله يمكن اقامته في مناطق أخري مناسبة وتتوافر فيها الشروط حتي لا تضيع الأموال هباء, وهناك مناطق عديدة صالحة, مثل غرب كوم امبو وبها ما يصل الي مليوني فدان وأرضها جيدة وصالحة لكونها رواسب نهرية نتيجة جفاف نهر قديم كان يمر بها( نهر تاد) وهي منطقة مناسبة, من حيث امكان استغلال المصارف الموجودة للصرف فيها وقربها من جميع خدمات البنية الأساسية من طرق وسكة حديد وكهرباء, وأيد عاملة رخيصة, وهناك غيرها من المناطق وبالتالي ما الداعي لانفاق الأموال في الهباء. ولكن ألا يمكن مواصلة الانفاق في مثل هذا المشروع لتعويض الانفاق السابق؟ لايمكن, هذا مشروع فاشل وقد صرحت بذلك وغيري قبل51 عاما, وتحدثت عن هذه النتائج المفزعة ولم يستجب أحد حتي وصلنا الي11 مليار جنيه خسارة, وأي مبالغ ستنفق فيه سنخسرهاه أيضا ولاحظ أن أسعار ذلك الوقت11 مليار جنيه بما يعادل30 مليار جنيه الآن, والمسئول لا يعلم والجهل أسوأ أثرا من السرقات, وفي النهاية يؤديان( الجهل والسرقة) الي الخراب وهو ما حدث في مشروعات أخري مثل فوسفات أبوطرطور, الذي توقف العمل فيه بعد أن استنزف من الخزينة العامة عشرة مليارات جنيه بسعر ثمانينيات القرن الماضي, وأهمل المشروع وتم سرقة خط السكة الحديد الذي تم انشاؤه لنقل الفوسفات بين الخارجة وسفاجا وغيرهما من المشروعات, خصوصا ما يتبع هيئة المساحة والثروة المعدنية. ولكن هل يمكن إحياء أو الاستفادة من مشروعات أخري باستثمارات خاصة وتستفيد البلاد من عوائدها دون التورط في الانفاق مثل حديد شرق أسوان وذهب السكري؟ هذه مشروعات يمكننا أن نقول إنها وهمية, فحديد شرق أسوان, الذي قدمه كمشروع شخص فنلندي الجنسية مصري الأصل بني دراسته علي أساس شراء مصنع مستعمل من لوكسمبورج( عمره25 عاما), وافترضت الدراسة توافر الكوك المطلوب للمشروع بمقدار750 ألف طن سنويا, وهذا غير صحيح, ثالثا افترضت الدراسة أن الدولة ستوفر للمشروع مساحة8 ملايين متر بالمجان جنوب شرق أسوان, وكذلك الكهرباء والمياه, وهو ما لم توافق الدولة عليه ولكن كل هذه الافتراضات الوهمية وضعت في الدراسة, وتم اعتمادها في ثلاث بنوك مصرية مولت المشروع بما يزيد علي150 مليون جنيه عام1999, سحب منها محمد بهجت صاحب الدراسة المصري الفنلندي الجنسية مبلغ39 مليون جنيه لحسابه الشخصي, وبشهادة ايداع مزورة قيمتها2.5 مليون جنيه وتم الحكم عليه ب15 سنة سجن ثم أفرج عنه في النقض بعد قضاء عامين في السجن, وشاب الافراج عن المذكور شبهات كثيرة كون محكمة النقض لا تختص بإبداء الرأي أو الفصل في دراسات الجدوي الفنية والاقتصادية للمشروعات, وبعد مرور السنوات يحاول البعض احياء هذا المشروع الوهمي بعد12 عاما وكأننا لا نستفيد من التجارب. ولماذا لا نستفيد من التجارب أم هل أصبحنا جميعا من العامة الذين قال فيهم الجبرتي إن ذاكرتهم لا تتعدي ثلاثة أيام؟ كل ذلك بسبب انهيار التعليم, وهو السبب الأول في رخاء وتقدم الأمم, فالحل الرئيسي لكل متاعبنا يكمن في تعليم المصريين وتثقيفهم تعليما جيدا مع ثقافة واسعة, فاجتناب الأمراض مثلا والحرص علي أموال الدولة وتحسين البيئة المحيطة بالانسان والنبات, والحيوان لن يتأتي إلا اذا كان المصري علي جانب وافر من التعليم والثقافة. ` وكيف نستفيد من مساحات الصحراء الشاسعة؟ بتحديد كل منطقة وثرواتها والشكل الأمثل للاستفادة, شرط عدم الاعتماد علي المياه الجوفية اعتمادا كليا في استصلاح الأراضي الصحراوية, لان أي دولة عاقلة لايمكن لها أن تعتمد علي المياه الجوفية المخزونة والتي لا تعوضها الأمطار السنوية في زيادة الرقعة الزراعية, خصوصا وهناك مناطق تنعدم فيها الأمطار مثل محافظة الوادي الجديد, والاعتماد فيها علي المخزون الجوفي كانت نتائجه سلبية جدا ومدمرة, والأفضل فيها مثلا تحويل أجزاء كبيرة من أرض المحافظة الي مراع خضراء وزراعات نخيل وبالتالي تتحول المحافظة الي مصدر أساسي للحوم والتمور ومنتجات النخيل, وبذلك نقلل من استهلاك المياه ونحصل علي منتجات ذات مردود اقتصادي عظيم, ولا نحتار في كيفية التخلص من مياه الصرف, وهكذا هناك أفكار كثيرة ولكنها تحتاج الي مخلصين ومتخصصين عوضا عن الفهلوة وتخدير القلوب بانجازات وهمية. أموال توشكي ذهبت أدراج الرياح!