والحكومة تتحدي نفسها وتعلن عن استثمارات وهمية في توشكي، ولايزال الجدل يحيط بالمشروع رغم مرور 11 عاماً علي إعلان وزارة الزراعة استقبالها للمستثمرين والخريجين، فماذا حدث؟ ومن السبب عن هذا الفشل؟ ولماذا تدافع الحكومة بضراوة رغم الحقيقة الموجودة؟ المهندس حسب الله الكفراوي وزير الإسكان والتعمير الأسبق يري أن مشروع توشكي يعتبر كارثة بكل المقاييس، والمنطقة علي خريطة مصر توجد علي خط الجفاف فلا يوجد منطقة في الغالم تم زراعتها علي هذا الخط، فالمياه الجوفية في تلك المنطقة توجد علي عمق 250 متراً والفدان الواحد يتكلف كهرباء لرفع المياه من هذا العمق حوالي 2500 جنيه، ويعتبر ريها من مياه النيل جريمة حيث سيأتي علينا وقت لن نجد مياها لزراعة الدلتا والأراضي الخصبة، فدرجة الحرارة في تلك المنطقة في الظل تصل لحوالي 50 درجة مئوية مما يؤدي إلي فاقد كبير في المياه نتيجة البخر. ويؤكد الكفراوي وجوب تراجع الحكومة عن هذا المشروع بدلا من الغرق في مزيد من الخسائر ، مشيرا إلي انسحابه من أول جلسة للجنة التي تم تشكيلها للمشروع، فالمجازفة بحصة مصر من المياه في أرض علي خط الجفاف يعد اهدارا لتلك المياه غير محمود العاقبة. وأضاف أنه قد سبق وتم عمل دراسات علي ذلك المشروع بقيمة 3 ملايين دولار أثبتت عدم جدوي المشروع وذلك عام 77 ، وبعد وفاة الرئيس السادات تم توقيع اتفاقية مع وزير الزراعة الإيطالي لاستصلاح 6 ملايين فدان في مصر وتم عمل دراسة أخري بتكلفة 8 ملايين دولار أثبتت أيضا عدم جدوي المشروع لذلك فهو يعد من قبيل "الحفر في الماء". في حين يري د. أشرف العربي الخبير الاقتصادي بمعهد التخطيط القومي أن مشروع توشكي يعد من أكثر المشروعات التنموية طموحا، بل هو بمثابة طوق النجاة من حالة الاختناق البشري في وادي النيل حيث يتركز حوالي 95% من السكان في منطقة تشكل 5% من مساحة مصر ، مشيرا إلي أن المشروع يعمل علي إنشاء مجتمع مستقر ودائم إن لم يكن للجيل الحالي فللأجيال القادمة. ويتساءل العربي : لماذا ينظر البعض إلي المشروع نظرة متشائمة ويصفونه بالفشل بينما الحقيقة علي خلاف ذلك• وقال : إن المشروع بدأ سنة 97 بوضع أربع خطط خمسية بدأت من 97 حتي ألفين وسبعة عشر بتكلفة تم تقديرها بقيمة 90 بليون دولار ويبلغ حجم انفاق الدولة فيه حوالي 20 % فقط ممثلة في البنية الأساسية للمشروع بدءا من محطة الرفع العملاقة للمياه والتي تكلفت ملياراو500 مليون جنيه ، وهذه المحطة قادرة علي رفع المياه من بحيرة ناصر عبر منسوب مائة وسبع وأربعون مترا أو أقل. وأوضح أنه حتي عام 2006 تم الانتهاء بالفعل من اعداد البنية الأساسية للمشروع وجار العمل في المرحلة الرابعة من ترعة الشيخ زايد والتي من شأنها توفير المياه اللازمة لنحو 500 ألف فدان يمكن زراعتها بمحاصيل مختلفة بما لايتجاوز حصة مصر في مياه النيل والتي تبلغ 55مليارا و500مليون متر مكعب بالإضافة إلي حوالي ستة مليارات متر مكعب من مياه الصرف الزراعي والصحي المعالجة ويبلغ بذلك إجمالي الموارد المائية 86,5 مليار مترمكعب، وقد بدأت عملية الاستصلاح منذ بداية عام 2006 ب 25 ألف فدان ، وبعد كل ذلك دعونا نتساءل : إذا كانت عوامل نجاح المشروع متوافرة فلماذا ينظر إليه البعض تلك النظرة التشاؤمية ويصدرون عليه حكما بالفشل؟ ويستطرد قائلا : وبالنسبة لما قيل حول أن الأراضي في تلك المنطقة صخرية وغير صالحة للزراعة فهذا كلام غير صحيح لأن الدراسات التي تمت للمشروع استغرقت قرابة العشرين عاما واختبارات التربة تكفل تأمين المشروع ضد هذا الزعم ، وعلي فرض أن هناك ثمة مساحات صخرية فهي ضئيلة جدا بالنسبة للمساحة المطروحة للاستصلاح فإذا افترضنا جدلا أن هناك مائة فدان صخري من اجمالي 500 ألف فدان قابلة للاستصلاح فهذا لاي مكن أن يعرقل مشروعا مصريا بهذا الحجم. من جانبه يري د. جمال صيام مدير مركز الدراسات الاقتصادية بكلية الزراعة جامعة القاهرة أن مشروع تنمية جنوبالوادي يعد من المشروعات العملاقة ، وبقدر ما يعتبر المشروع هائلا علي جميع الأصعدة بقدر ماسيظل محورا للجدل بين جميع وجهات النظر المختلفة والمتباينة، وهناك جدل واسع النطاق بصفة عامة حول إمكانية توفير المياه للمشروع وجدواه الاقتصادية اجمالا ، والمشكلة ليست في إمكانية توفير المياه فحسب ولكن في تكلفة توصيلها إلي منطقة المشروع حتي لو كانت متوافرة، فمن واقع دراسة أنماط الري في مصر والتي تتركز حول الري بالغمر الأكثر استهلاكا للمياه يمكن القول بأن تغيير أساليب الري إلي الري بالرش والتنقيط يعد من الوسائل الأكثر أهمية التي يمكن خلالها توفير كميات هائلة من المياه. وأشار صيام إلي التكلفة الإجمالية للمشروع بوصفها تكلفة هائلة بكل المقاييس ، لذلك فمن الضروري التأكيد علي أهمية تحقيق الهدف الاجتماعي حتي يمكن تبرير تكاليفه الباهظة وهو زيادة المساحة المعمورة في مصر من 5%إلي نحو 20% بعد اكتمال المشروع عام 2017 ونقل جزء كبير من الكتلة السكنية يقدر بنحو 3 ملايين نسمة إلي منطقة المشروع. وقال صيام : إن الهدف الذي أعلنته الدولة لن يتحقق بالنوايا الحسنة ، لكن من خلال السياسة العملية لتنفيذ وإدارة المشروع وتوزيع الأراضي التي سيتم استغلالها. والسياسة التي تم تطبيقها حتي الآن خاصة منح مساحات كبيرة من الأراضي لكبار المستثمرين العرب لا تبشر بإمكانية نجاح المشروع في تحقيق هدفه بنقل جزء كبير من الكتلة السكانية إلي منطقة المشروع. لذلك فلابد من إعادة النظر في سياسة توزيع وتملك الأراضي فيه بالصورة التي تضمن تحقيق أهدافه الاجتماعية والأكثر أهمية من سواها. ويستطرد قائلا : إذا كانت الدولة قد قامت بإقامة البنية الأساسية للمشروع ، فإن تحوله إلي جزء من الاقتصاد المصري مرهون بقيام القطاع الخاص بدور فعال في إقامة استثمارات زراعية وصناعية وسياحية في تلك المنطقة ويعد اسهام الدولة بنسبة 20% من التكلفة الفعلية مدفوعة من أموال الشعب يقتضي مشروعية منح أراضي المشروع لأبناء الشعب من المعدمين من صغار المزارعين والأجراء من العمال الزراعيين والحاصلين علي مؤهلات زراعية ومساندة الدولة لهم من خلال توجيه قروض صندوق التنمية الزراعية والصندوق الاجتماعي للتنمية أو من خلال قروض حسنة من المؤسسات المالية لتشجيعهم علي الاستزراع والاستقرار الكامل في توشكي لتحقيق نقلة حقيقية للسكان. د. أحمد أبو النور أستاذ الاقتصاديات الحرجة وإدارة الأزمات بجامعة عين شمس يري أن مشاكل تقييم المشروعات المجتمعية دائما تتعجل النتائج بالرغم من كونها كأي استثمار تشمل قصير الأجل ومتوسط الأجل وطويل الأجل ، مشيرا إلي أن التنمية قد يغلب عليها الأداء التلقائي في أغلب الحالات فالإنماء هو فعل متعمد من التنمية وباعتباره هو طموح المشروع المجتمعي فأي قياسات يجب أن تتم في ضوء خريطة إنماء المجتمع المتفق عليها. ويشير أبو النور إلي تقرير الأممالمتحدة للتنمية البشرية بالتعاون مع معهد التخطيط القومي الذي أكد أن أحد أسباب تراجع الإنماء في مصر وخاصة في القطاع العقاري يتمثل في أن جهازا رسميا حكوميا مثل " هيئة المجتمعات العمرانية " تعمل كمقاول بناء فقط وليس كإحدي أدوات الإنماء.. لذلك نجد أن الفكر السائد لدي المخطط الحكومي في الإنماء العقاري هو نفسه المسيطر علي الفكر الاقتصادي لمشروع مثل " توشكي " وغيره من المشروعات الاستراتيجية التي تتناولها عقلية بعيدة عن منطق الدراسات المستقبلية والتي تعني بكل ماهو استراتيجي ، ولايشفع لهذه العقلية تحميل المجتمع بأعباء مكاتب استشارية دولية لا تستقي معلومات حقيقية عن الواقع لأنها لا تعايشه بل عن مصادر معظمها من المخططين الذين أشار إليهم تقرير الأممالمتحدة وبالتالي فأخطاء الدراسات والسياسات المستمدة منها لاتعود إلي المكاتب الاستشارية بل إلي مصادر معلوماتها الحكومية. وقال أبو النور : إننا بمنطق الدراسات المستقبلية يجب أن ننظر إلي مصر ككل عند إنجاز أي تخطيط مجتمعي، فمصر مثلا ذات مساحة تبلغ مليونا وألفي كيلو متر مربع يسكن المصريون في 5% فقط من هذه المساحة مما أحال عنصر الوفرة الاقتصادية في كثير من موارد المجتمع كالأراضي مثلا إلي عنصر ندرة ذات تكلفة وأسعار باهظة مما يعوق أي إنماء من أي نوع ، فتكاليف عناصر الإنتاج أكثر ارتفاعا من تكاليف الإنتاج بالمنطقة العربية ككل ، فإذا كانت النظرة للإنماء غير شاملة فكيف ننتظر من تفعيلاتها أن تكون ناجحة. في غضون ذلك وقعت الحكومة في أزمة مع الوليد بن طلال الذي حصل علي آلاف الأفدنة في توشكي لاستصلاحها لكن الحكومة غفلت عن وضع مدة محددة لاستصلاح هذه الأراضي وبات مسئولو وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي في ورطة خاصة أنهم لا يقدرون علي إخراج الوليد بن طلال من الأرض أو سحبها منه باعتباره مستثمراً غير جاد، وهناك العديد من الأمثلة علي ذلك باتت حبيسة الأدراج.