لم يكن طغيان حسني مبارك وديكتاتوريته الممجوجة وإيثاره لهواه وتصلبه سواء علي حق أو باطل أسوأ ما فيه, وإنما الأسوأ أنه نجح في أن يورث كل تلك الأمور لمعظم رعاياه علي مدي ثلاثين عاما. ولذلك لا تجد أزمة أو مشكلة صغرت أم كبرت, إلا وتاهت في غياهب من الآراء المتضاربة والأفكار المتناطحة التي لا أرضية لها ولا أساس من فكر سليم أو نص شرعي صحيح. كل ذلك لأن الكل أصبح مؤهلا للفتوي وأصبح خبيرا اقتصاديا وعالما سياسيا وطبيبا ألمعيا وقائدا عسكريا فذا, ولعل أبرز ما ساعد علي شيوع تلك الفوضي الفكرية هو تلك الفضائيات التي تتكاثر كما الجراد, وتجعل من صاحب المال فذا في كل علم ومن يرضي عنه صاحب المال من المذيعين والضيوف نجما يشار إليه بالبنان. ومن الممكن أن تنحل عقد كثيرة وتنطفيء, فتن عديدة وتذوب خلافات لا حصر لها وتبرد عقول تاهت وسط فوضي الآراء والأفكار والاقتراحات والحلول التي تمطرنا ليل نهار لو تذكر هؤلاء مقولة الإمام مالك رحمه الله عندما قال:( لا أعلم هي نصف العلم) ومقولة سفيان الثوري:( لا ينبل الرجل في العلم حتي يأخذ ممن دونه وممن في رتبته وممن فوقه) وقولة أبو حامد الغزالي:( لو سكت كل من لا يعلم لسقط الخلاف) وقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه:( تفقهوا قبل أن تسودوا) أي تعلموا قبل أن تمسكوا بالميكرفون وتقبضوا عشرات الآلاف في الفضائيات وقبل أن تمسكوا بالأقلام لتدبجوا مقالات لا يقرؤها أحد ولا تذكر بعد موت صاحبها أو تركه لمنصبه. يضاف إلي فضيلة التعلم فضيلة مخالفة الهوي, فتجد الواحد منهم يعمل في جريدة أو فضائية ما فيمدح صاحبها الذي يدفع له فينتقل إلي جريدة أو فضائية أخري مناوئة فيذم من كان يمدحه, وهكذا الأمر مع السياسيين وحتي عامة الناس. وأصحاب الميكروفونات في الفضائيات إن أعطاهم الإسلاميون مدحوا الأشخاص والمنهج, وإن أعطاهم غير المسلمين ممن سيطروا علي إعلامنا بأموالهم انتقدوا الإسلام منهجا ورموزا.