لماذا حدثت الانتفاضات والثورات الآن وليس في الثمانينات والتسعينيات عندما كانت الدول العربية في تراجع؟ ولماذا قادتها الطبقات الوسطي وليس الفقراء المكبوتون؟ ولماذا اندلعت في الميدان الأنجح وليس في تلك التي شهدت نموا أبطأ؟ هذه الأسئلة محور كتاب بعنوان اقتصاد سياسي في الشرق الأوسط تأليف أستاذين في جامعتي براون وهارفرد. والإجابة عنها تكتسب أهمية قصوي خاصة ونحن بصدد اعداد خريطة طريق للعقود المقبلة حتي لا نقع في الأخطاء نفسها وبالتالي نعاود الكرة من جديد.. لقد ذهب الكاتبان إلي أنه في الأيام الأولي من الربيع العربي كانت هناك نقاشات متعلقة بأهمية العوامل الاقتصادية قياسا بالسياسية نحو دوافع الاحتجاجات الجماهيرية في مختلف أنحاء المنطقة غير ان العوامل الاقتصادية لم تكتسب قيمة تفسيرية كبيرة ففي العقد السابق لم يكن النمو الاقتصادي منخفضا في بلدان الثورة إذ تراوح في معدله السنوي بين4% و5% من الناتج المحلي وأن لم يصل إلي المستوي الذي كان مطلوبا لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الشبان الوافدين إلي سوق العمل.. وكانت البطالة مرتفعة بين شباب العالم العربي, ولم يكن هذا تطورا جديدا وبالتالي فإنه لا يفسر توقيت الاحتجاجات.. أيضا كان الوضع الاقتصادي الكلي مستقرا نسبيا مع تقلص العجز في الميزانية والحساب الجاري ومع مستويات ديون معقولة نسبيا واحتياطات دورية مريحة كما أن الركود العالمي لعام2008تزامنا مع أزمتي النفط والغذاء لم يؤثر علي المنطقة. أي أنه عشية الثورات لم تكن هناك أي صدمة اقتصادية محددة يمكن الاشارة إليها كسبب مرشح لإشعال الانتفاضات.. إذن لماذا بدأت الثورات في تونس ومصر وهي التي تمتعت في السنوات التي سبقت الثورات بأعلي معدلات للنمو الاقتصادي في المنطقة. في رأي الكاتبين أن هناك سببين هما تراجع دولة الرفاة وتوطيد العلاقات الوثيقة بين الدولة وعناصر معينة من نخبة رجال الأعمال في إطار الليبرالية الاقتصادية الأمر الذي أدي في نهاية المطاف إلي تغيير سياسي مفاجيء وهو انشقاق الطبقات الوسطي عن التحالف السلطوي فمزيج من الظروف الاقتصادية المتغيرة والزيادة المصاحبة في عدم المساواة في الفرص هو ما دفع إلي انهيار الصفقة الضمنية بين الحكام السلطويين وحلفائهم الأساسيين من الطبقات الوسطي علي الطريقة التي تنهار فيها السدود فجأة عندما تتعرض لفترة طويلة إلي ضغوط مكثفة. وكان الإنفاق الحكومي في أوجه خلال السبعينيات مدعوما بتعاظم الثروة النفطية حيث وصل إلي أكثر من50% من الناتج المحلي ثم بدأ في التراجع في الثمانينيات والتسعينيات ليصل إلي أقل من25% وهو رقم منخفض وفقا للمعايير الدولية في الوقت نفسه لم تشهد الاستثمارات الخاصة ارتفاعا كافيا للتعويض عن هذا النقص, وقد اثارت محاولات خفض دعم المواد الغذائية الأساسية إلي ما عرف بانتفاضة الخبز التي اطلق عليها السادات عبارته الشهيرة انتفاضة حرامية! اثر التدهور في مؤسسات الرعاية الاجتماعية العامة علي جميع قطاعات السكان باستثناء نخبة الاثرياء. وبقي القمع اداة غير كافية للسيطرة ولذلك لجأ النظام إلي استمالة الطبقات الوسطي من خلال منافع اقتصادية مباشرة في شكل دعم لبضائع تستهلك بنسبة أقل من جانب الفقراء خاصة البترول والطاقة.. وفي الوقت نفسه أصبحت الأنظمة المالية أكثر محاباة للأغنياء إذ باتت متحالفة بشكل أكثر علانية مع النخبة الغنية فبعد الإصلاحات التي طبقت علي النظام الضريبي في التسعينيات أصبحت الضرائب غير المباشرة تطبق علي المستهلكين جميعا بغض النظر عن مستويات الدخل عنصرا أهم من الضرائب المباشرة والسؤال المركزي هنا لماذا بقيت المنطقة العربية دون مستوي الأداء في توفير فرص عمل في الوقت الذي بدأ فيه ان عمليات اصلاح السوق, كانت ممتازة ظاهريا؟! لقد ذهب المحللون إلي أن السبب الكامن وراء ذلك يرجع إلي أن الاقتصاد أصبح مهيمنا عليه من شبكات امتياز حدت من المنافسة والابتكار وبالتالي فرص العمل ويبدو أن العلاقة الحميمة بين الدولة وقطاع الأعمال صار ت مصدرا غير مبرر للنفوذ والفساد, وتلقي دراسة لسوق الأوراق المالية المصرية في فترة2011 بعض الضوء علي تلك القضايا حيث وجدت أن قيمة الشركات المرتبطة بنظام مبارك انخفضت أكثر من أسعار الشركات غير المرتبطة بنحو30% في سوق الأوراق المالية المصرية خلال الأسابيع التي أعقبت الثورة وهذا تقدير جيد من وجهة نظر الكاتبين للطريقة التي تقيم فيها السوق العلاقات والامتيازات السابقة لهذه الشركات وتشير تحليلاتهما أيضا إلي أن الشركات المرتبطة بالنظام لها نصيب أكبر من السوق مقارنةة بمنافساتها غير المرتبطة وانها اقترضت أكثر بكثير من منافستها فبحلول2010 حيث حصلت أكبر22 شركة مرتبطة علي70% من أرصدة الائتمان المخصصة لأكبر100 شركة مصرية والمهم أنهم وجدوا أن الشركات المرتبطة بالنظام كانت أقل ربحا من الشركات غير المرتبطة!.. خلاصة القول أن تفاعل الاستياء الاقتصادي مع السياق الاجتماعي السياسي الأوسع أدي إلي اشعال الثورات فلقد تسبب تصاعد الضغوط المالية الناجمة بشكل كبير عن الارتفاع في نفقات الإعانات( الدعم) المطردة إلي تدهور الخدمات الاجتماعية وانخفاض الاستثمارات العامة مما أضر في الغالب بالفقراء والمناطق المهمشة.. أن الطبقة الوسطي المتعلمة علي نحو متزايد والعاملة بشكل مستقل في الأسواق غير النظامية الناشئة قد تضررت من بطء توفير فرص جيدة ومن حقيقة أن الوصول إلي الفرص الاقتصادية لم يكن محكوما بأسس الجدارة أو المساواة بل بواسطة العلاقات مع القادة السياسيين ودوائر حلفائهم الضيقة, وكان الشعور بالإحباط أكبر في البلدان الأنجح حيث معدل التعليم أعلي والطموحات أكثر.. ولقد أوجد هذا المزيج من العوامل سدا جاهزا للانفجار من المظالم المتراكمة والطموحات المتعاظمة وفي هذا السياق انشقت عناصر من الطبقة الوسطي عن التحالفات السلطوية وتحولت إلي اداة للتغير فهل يمكننا تجاوز هذه السلبيات في المستقبل؟! هناك مثل فرنسي شهير يقول( الاستطاعة هي الإرادة) والإرادة هنا إرادة سياسية وشعبية والثانية باتت أكثر تأثيرا من الإرادة السياسية بعد الثورات. د.عماد إسماعيل