سكان هذه الدار, لم يدر بخلدهم أبدا أنهم سيمضوا بقية أعمارهم هنا,تجرأت ودخلت دار المسنين في احدي مدن محافظة الدقهلية التي كانت حتي عشر سنوات ماضية ريفية. بمعني أن مجرد وجود دار للمسنين في حد ذاته يعتبر كان عيبا كبيرا !.. تجولت في الحديقة انتظارا لقدوم مديرة الدار التي شجعتني علي الزيارة في يوم عيد الأم في صباح يوم عيد الأم, تزدهر الابتسامة علي بعض الوجوه القديمة التي عرفت طعم البهجة لزيارة ابن أو حفيد, في حين تجلس زمهات عجائز تعتريهم الكآبة تلعن الأمومة والعيد والزمن, لأن أحدا لم يتذكرهن. سيدة أنيقة اشتاقت لمنزلها وحجرات أبنائها وبناتها, قالت لي: هواء المنزل له سحر افتقدته هنا, ولكن ما باليد حيلة.. أدمعت عيناها وخرجت كلماتها بطعم المرارة.. والله اشتقت للشارع بتاعنا وللبلكونة والمطبخ! تجولت بين الآباء والأمهات, سمعت الحكايات والذكريات, رأيت الابتسامات الصافية التي غالبا ما ترتبط بالذكري, وبعد ساعات قليلة بدأت الحركة تدب بين جنبات الدار, رجال وسيدات, شباب وأطفال جاءوا للزيارة, بعض الأسر يأتون هنا لمجرد الزيارة لتقديم الهدايا لمقيمين بالدار كنوع من المشاركة والتكافل, وربما لأخذ العبرة.. الله أعلم. لا تحب أبناءك أكثر من اللازم أسباب الاقامة هنا تبدو متشابهة أحيانا ومتباينة في أحيان أخري, خلف كل وجه حكاية, غالبا ما ترتبط بالألم.. السيدة اعتماد أنهت لتوها صلاة الظهر فقلت لها حرما وردت جمعا إن شاء الله, انت مين فقلت لها زائر, فسألت.. من الشئون؟ تقصد من موظفي الشئون الاجتماعية الذين يأتون هنا للمتابعة, فقلت لها: لا, فقالت جاي لمين فقلت للجميع فرحبت بي, وكانت خطواتنا قد قادتنا إلي استراحة بحديقة الدار, فجلست أمامي, وتكلمت أنا قليلا حتي اطمأنت لي, فاسترسلت في الكلام دون توقف قالت: ربنا يحسن ختامنا, اللي قدامك يابني خرجت علي المعاش موجهة إنجليزي, بدأت عملي في الستينات وشاركت في علاج جرحي حرب أكتوبر في المستشفي العام كنت معروفة بالهانم.. مال وجمال وصحة, تزوجت مهندس قريبي محترم وطيب, جذبني إليه بأدبه وشياكته, وخلال5 سنوات كنت أما ل4 أولاد كلهم ذكور, لم يكد أولهم يلتحق بالصف الأول الابتدائي حتي فجعت بوفاة والدهم, ومنذ ذلك اليوم, عرفت الوجه الآخر للحياة, سواء من اخوة زوجي الذين تقدموا للزواج مني, رغم أنهم متزوجون,. أو من الشافين وما أكثرهم ولكن قررت أن أتزوج مستقبل أولادي, الذين كبروا أمام عيني وعوضوني عن فقد والدهم.. تعلموا وعملوا وتزوجوا واحدا تلو الآخر, وأصبح المنزل الكبير خاليا أشبه بالسجن.. الوقت يمر ببطء والوحدة قاتلة.. وصور الأبناء علي الجدران صامتة لا ترد علي أسئلتي.. الحياة شغلتهم عني وأصبحت زياراتهم لي متباعدة بعد أن تركوا البلد وعاشوا في القاهرة وأحيانا خارج مصر.. قررت أن أعيش هنا في الدار.. بفلوسي.. خرجت من بين شفتيها آهة ألم فقلت: سلامتك فقالت: وقعت علي رجلي والدكتور عمل لي جبير ة, شعرت أنها تريد أن تنهي القاء فجلست صامتا فقالت لي: يابني ربي ولادك بالحلال, ولا تحبهم أكثر من اللازم! المسن القروي المتفائل! زيارات الأبناء للمسنين في دارهم مجرد مسكن مؤقت يرجيء الآلام, والورود المتناثرة في الحديقة لم تعد قادرة علي منح السعادة للقلوب الكسيرة والعيون الحائرة كما قال عم سعيد الذي فاجأني بانه من قرية مجاورة ولما ظهرت علي وجهي ملامح الدهشة و الاستغراب قال لي: يابني معدش فيه قرية ومدينة, الأخلاق انعدمت, أنا أب لبنتين متزوجتين في أحسن العائلات, كنت أعمل موجها للغة العربية وبعد وفاة زوجتي وجدت نفسي وحيدا.. الميراث جعل البنتين يأتون لي في البلد كل واحدة يو مين في الأسبوع, ولما كبر السن زادت طلباتي ولما استشرتهما في الزواج, انقلب الحال وطلبت كل واحدة ميراثها الشرعي ولم يبق أمامي الا الموافقة, وعشت في منزلي في البلد علي مرتبي, الزوجة التي حلمت بها رفضت اتمام الزواج فلم يعد معي شيء يغريها, أختي وأبناءها أتوا للحياة معي في المنزل بعد وفاة زوجها وسعدت بهم, حتي حان موعد زواج ابنها الأكبر فاحتل الطابق الثاني من منزلي وبعد عام تزوج أخوه في الدور الأول وعاش معي ومع والدته التي توفيت بعد عامين من زواجه فوجدت نفسي غريبا في بيتي, رغم المعاملة الحسنة من جانب أبناء أختي وزوجاتهم إلا أنني قررت أن انسحب من حياتهم وكتبت لهم المنزل وأتيت للحياة هنا والحمد لله بيزوروني من وقت للثاني إلي زن يأتي أمر الله وله الحمد علي كل شيء. زيارة خاصة أثناء جلوسنا علي الأرض مرت من أمامنا3 سيدات يبدو أنهن في الطريق للخروج من الدار ربما لنزهة أو زيارة بصحبة احدي الموظفات لفت نظري الملابس السوداء التي تغطي أجسامهن النحيلة فسألت الموظفة التي أجابت نحن سنزور قبر السيدة أم رأفت, وتشير إلي العجائز الثلاث قائلة في كل عيد اصطحبهن إلي المقابر لزيارة احدي النزيلات التي توفيت منذ3 سنوات. في عيد الأم تبدو دار المسنين من الخارج كقاعة احتفالات تزينت لاستقبال الضيوف, أما من الداخل فيبدو كل شيء نظيف ومرتب.. لكن الحكايات التي سمعتها أصابتني بالفزع, ويبقي التساؤل الذي لم يفارقني, ماذا لو شاء القدر أن تنهي حياتك نزيلا في هذه الدار؟.. ليست لدي إجابة.