هذه القصة لم أؤلفها, إنها واقعية, عشت لحظاتها خلال معركة العبورالعظيم في السادس من أكتوبر73, ظلت تعتمل , وتتصاعد حيث كنت وقتها ضابطا من ضباط الاحتياط برتبة ملازم أول قائدا لسرية الرشاشات بالكتيبة12 مشاة' أبطال تبة الشجرة'.. بطل هذه القصة أحد جنودي في الكتيبة الذي كنت قريبا منه الي درجة التوحد, الشهيد' مصطفي شرف الدين'.. كل مافعلته أنني بعد وقف إطلاق النار, قمت بتسجيلها أواخر أكتوبر73. ..................................................... ................................................. الصمت في جميع الأرجاء يخيم, لايبدده إلا نبضات تلك القلوب التي تكاد تقفز من الصدور.. الوجوه عابسة مصممة متحفزة.. النظرات بالعزم ترنو إلي هناك.. إلي الشاطئ البعيد.. إلي سيناء.. الأيدي بقوة الرجال تقبض علي السلاح.. الأقدام في الخندق ثابتة ثبوت الصخرتترقب في شوق إلي الانطلاق. ماأقساك ياعقارب الساعة وما أبطأ حركتك!! في غيظ محبب قالها' شرف الدين' وهو ينظر إلي الساعة في معصمه.. راح عقله إلي منطلق رحب يقلب صفحات الماضي التي سطرتها أحداث ست سنين.. تذكر أنهارالعرق في تدريبات الست سنين.. تذكرسعادته حينما انضم إلي الجندية.. تذكر زهوه بنفسه واعتزازه بها كجندي من جيش مصر.. تذكرنظرات كثيرة إليه, هذه نظرات ساخرة وربما كانت حاقدة, هذه نظرات يائسة مستسلمة, هذه نظرات تفاؤل لكنه حذر, هذه نظرات غضب ثائرة تنفذ إلي جسده كسهم ناري, كسوط من اللهب, ثم تلك نظرات أمل.. نعم الأمل.. أخيرا جاء الأمل.. رائعة عيون الأمل.. قوي لامع بريقها. في صدر' شرف الدين' وفي قلبه تسكن تلك النظرات, إنها غذاء عقله اليقظ دائما, إنها مصدرقوته وطاقته وحركته الدائبة الدائمة التي لاتهدأ.. تذكردمعة في عين أمه.. تذكر نحيبا من زوجة أخيه.. تذكر نظرة حزينة ارتسمت علي وجه طفل صغيرلايدري مايدورحوله, لايدري ماسببه.. حزين هو ابن أخيه فقط من أجل دمعات أمه.. تذكر ذلك اليوم من ست سنوات, ذلك اليوم من يونيو67 يوم استشهاد' محمد' أخيه الأكبرفي سيناء وقد كان مثله الأعلي في كل شئ, في خلقه ورجولته وبأسه الشديد. نعم إنه يتذكرهذا اليوم جيدا.. يذكر أخاه.. وكيف ينساه وهوحي باق يعيش في قلبه وفي كل كيانه.. كيف ينساه وقد قرريومها أن يكون امتدادا لأخيه في كل مجال.. فأمه لن تكون ثكلي.. زوجة أخيه لن تكون أرملة.. ابن أخيه لن يكون يتيما. هكذا بعزيمة الرجال قرر' شرف الدين' وهاهو يفي بوعد قطعه علي نفسه أن ينتقم لأخيه ويثأر له.. أن يطفئ لهيب الغضب في صدره.. أن يطفئ نارالهزيمة تلك التي شبت داخل أعماق النفوس.. أن يهزم الهزيمة نفسها. تذكركل ذلك بينما الذكريات تتصاعد بمرارتها إلي ذروة نفسه حتي إذا ضاق بها صدره المنتفض إذ هو يسمع في الأفق البعيد من سيناء من يناديه.. هذا الصوت.. إنه يذكره جيدا.. إنه صوت' محمد' أخيه الشهيد: نعم يامحمد.. إني قادم إليك أطلقها' شرف الدين' صيحة مدوية زلزلت جدران الصمت.. ثم إذ هي انطلاقة الرجال مع صيحة النصر والتكبيرتهب من كل فج.. في جزء من الثانية تجمع الرجال بغضب الست سنين حول القارب.. وباسم الله وعزيمة الرجال يسير القارب.. يشق طريقه عبرصفحة مياه القناة وإذا بها ترحب في صمت برجال مصر وغدت مياهها قيثارة حب ووفاء يعزف عليها الرجال بمجاديف قواربهم لحنا عذبا يمتزج بدوي المدافع وهدير' الدانات' المصرية في انسجام موسيقي عجيب. ماإن وصل القارب إلي الشاطئ إلا وكان' شرف الدين' أول من قفز.. إنها لحظة عمره كله.. موعده مع القدر هنا قد جاء أخيرا بعد تلهف وصبر وانتظار طويل. إنها سيناء.. سيناء ياعمري المفقود هاأنذا قد جئت إليك.. قد عدت إليك.. إني هنا إذن علي ترابك. في فرحة هستيرية يقفز' شرف الدين' تارة وأخري يسجد يقبل أرض سيناء.. يقبل الرمل.. يقبل وجه أخيه.. لم يترك نفسه للانفعال.. هاهو يحمل السلم الخشبي يصعد به حاجز اليأس.. يشق الساتر الترابي الكثيف صاعدا في عزم كريح عاتية تقتلع جذورالشر, تبدد غيوما كثيفة.. تشق للنور طريقا تصعد عليه قلوب غضبي عطشي للانتقام. ينظر شرف الدين' إلي أسفل حيث الشاطئ فيبتسم في عزة وهو يري موجات من جيش مصر الأبي تتلاطم.. تتلاحم.. تتسارع.. كل تريد أن تلحق بأخراها. الله يحميك يا' مفتي'.. الله أكبر لم يستطع' شرف الدين' إلا أن يطلق تلك الصيحة المكبرة المدوية.. إنه علم مصرشرف مصريعيد غرسه زميله' مفتي' في أرضنا سيناء.. علم مصر يرفرف.. يخفق في زهو وعلو وافتخار.. زهو شعب مصر وعلوهم وافتخارهم. ' محمد'.. أخي.. نحن جئنا يامحمد.. نحن عدنا.. لك أنتقم وأثأر.. سأنتقم وأثأر.. هذا علمنا زرعناه إلي جوارك يظلل جسدك الطاهر.. يرفرف بأنفاس روحك الزكية. وفجأة وكالسهم الخارق انطلق' شرف الدين' في شراسة البأس العتيد لهامة عملاقة.. لم يفكر.. لم ينتظر.. ولم يطق صبرا وقد وقع بصره علي دبابة تقترب في جنون.. تتقدم في ذهول.. تتخبط كأنها تسير في الظلام.. وأي ظلام ؟؟ أهناك أشد من ظلام الهزيمة ؟؟.. تلك هي تتقدم.. اعتملت في نفسه ثورة عارمة أنفضته وثبة إلي الأمام.. في إحدي ثنايا الأرض وضع نفسه كصياد ماهر ينتظر بدهاء فريسته وصيده الثمين.. كتم أنفاسه.. أصبعه علي الزناد.. عينه ترقب.. مهلا أيها الجبناء لن تنفذوا إلي علمي.. بسم الله خذ ياعدو الله أطلق' شرف الدين' قذيفة من سلاحه الأربي جيه أحالت الدبابة نارا وتدميرا, وفي اللحظة ذاتها إذا برشاشها العاجز اليائس يلفظ أنفاسه الأخيرة بدفعة من الطلقات تسكن إلي صدره.. هاهي دماء زكية تنزف من جسده ملأ أريجها المكان كله.. ابتسم شرف الدين' ثم عاد يعانق الأرض.. يعانق وجه أخيه بعد فراق دام ست سنين.