يبدو لي أن علاقة الطبقة السياسية بالزمن تتسم بالالتباس علي مستوي الإدراك السياسي, وفي العلاقة مع تاريخها ومع أزمنة المنطقة والعالم المعولم حولها وداخلها! هل يشوبها الغموض, أم الركود والتثاقل؟ هل هذا الإدراك المضطرب إزاء مفهوم الزمن الصاعد والمتسارع والمكثف والتراكمي يعود إلي ضعف التكوين والخبرة السياسية والمهارات والأخيلة السياسية الخلاقة والرصينة؟ أم أن ذلك يرتبط بالشيخوخة السياسية التي لا تزال تشكل سمت تشكيلها وشخوصها وأداءاتها؟ أم أن الشيخوخة السياسية ليست حالة عمرية فقط, وإنما هي سمت تفكير ومقاربات تعيد إنتاج معارف وخبرات وروئ وأفكار تنسب إلي الماضي ومحمولاته وتجاربه, التي هي في معظمها لم تنتج سوي تجارب لم تحقق نجاحات مأمولة علي مستوي تطوير الدولة وتجديدها أو مواجهة المشكلات المتراكمة للتخلف التاريخي ذي الأبعاد المركبة التي تمثل ذروة دراما الفشل التاريخي نعم هو ذاك- الذي يعطل ارادتنا السياسية شبه الجماعية, أو حتي علي مستوي الإرادات الفردية والأحري الشخصية؟ ما الذي يجعلنا نطرح مجددا مسألة العلاقة مع الزمن علي عديد المستويات في السياسة المصرية التي عادت إليها بعض النبضات, والدماء إلي أوردتها بعد طول تيبس, واحتجاز داخل معتقلات التسلطية... عديد من الأسباب التي نذكر بعضا منها فيما يلي:1- أنا إزاء مشكلة كبري تواجه العقل شبه الجمعي للأمة التي كانت قبل أن تنتابها الشروخ المتعددة والمركبة في تشكيلها, وموحداتها وأسس عملها. وفي نطاق الإدراكات الشخصية لغالب المصريين الذين يعيشون عديد الأزمنة في واقعهم الموضوعي والتاريخي, وفي قراراتهم الفردية اليومية, أو تلك التي تتجاوز اليومي إلي ما يتعداه. ثمة عديد الأزمنة المتداخلة والمتجاورة والمتوازية, بين زمن ماضوي يتمركز حول تاريخ الذاكرات الفردية والأحري الشخصية- وتجاربها وإحباطاتها وفشلها, وبعض إنجازاتها, أو أسري أجواء بعض الذكريات, التي تتحول إلي جزء من المديح الذاتي للزمن الخاص للشخص, أو بعض الذكريات الجماعية السياسية, أو الاجتماعية, أو بعض الصور التي سرعان ما تتحول إلي ما نطلق عليه جماليات الماضي, أو الماضي الجميل, أو السعيد, أو النوستالجيا أو النوستالجيات الفردية أو الجماعية وما يحمله هذا الحنين من دفء ما, وذكري ما... الخ.. ولع فردي وجماعي بالزمن الجميل ولا نعرف ما هو الجمال أو بعضه الذي كان يكتنفه, أم هو هروب إلي الحنين, سعيا وراء تماسكات وتوازنات فردية أو جماعية إزاء فشل راهن ومستمر؟ هناك الزمن المرتبط بالتواريخ الشفاهية حول الفرد, أو الجماعة المهنية, أو الدراسة, أو الأسرة أو العائلة, وهو زمن ارتدادي, ولكنه يلعب دورا في التوازن النفسي والفردي والأسري, وغالبا ما ينطوي لشفاهيته علي بعض المتخيلات, والأكاذيب, والمبالغات, أو الكفاح أو الشجاعة أو الدعة والرفاهة وربما الفشل.. الخ! وهناك الزمن الديني الذي يركز علي الديانة وعقائدها وطقوسها وتجاربها المؤسسة, والتي تدور حول الإلهي المفارق, والمتعالي فوق إرادات البشر, وينطوي علي القواعد المعيارية المثالية والمطلقة, والأخلاقية التي تشكل النموذج المؤسس, ومن ثم تقدم الصورة/ المثال/ المعياري للإنسان الكامل, وأنماط سلوكه الخيرة وموجهاته من حيث الخير والشر والحلال والحرام, ويبدو السعي إلي استعادة الزمن الضائع- بتعبير رواية مارسيل بروست- بين النموذج المؤسس, ونمط الشخصية- المثالية أو الكاملة إسلاميا أو مسيحيا-, وهو ما قد يسهم في ترشيد الشخصية وسلوكها ونفسياتها وعلاقاتها. في عديد الأحيان يتحول المثال المعياري والأخلاقي إلي عبء نفسي وذهني ثقيل, ويؤدي إلي إنتاج مفارقاته وتناقضاته بين المثال كما تجسد تاريخيا في التجربة المؤسسة, وبين جماعة المؤمنين وسلوكهم المثالي في ذاكرة الفرد أو الجماعة وأدوارهم, وشجاعاتهم, وطهرانيتهم وأخلاقهم وقيمهم, وبين الواقع المعاصر بكل مخاتلاته وأكاذيبه ومراوغاته وعسر الحياة, وثورة توقعات الفرد, والنمط الاستهلاكي الوحشي الذي يؤدي إلي تشيء الحياة اليومية في سلوكياته, ومدي إشباعها للرغبات أو الكبح والحرمان, والاغتراب. من هنا يستعاد الزمن المثالي المرغوب حول التجربة المؤسسة وأمثولاتها, والأحري ما صنع حولها تاريخيا وفي التداول الشفاهي بين رجال الدين, وكبار السن, وما استقر في ذاكرة الفرد حول تاريخه الديني ونظامه العقائدي أو مروياته ورموزه, وشخوصه المؤسسة للدولة والإمبراطورية الإسلامية, وكبار فقهائه وتلاميذهم والتابعين... الخ. الزمن الديني المؤسس يحمل في أعطافه الحنين, والبراءة, والمفهوم الأول عن الطيبة, والحسن في مقابل القبيح, والطهرانية في مقابل الإثم والحلال في مقابل الحرام, ومن ثم المشروع في مواجهة نقائضه. هو زمن الأسئلة, وبعض الإجابات الحاملة لزمنها وسياقاته وضغوطه ومشاكله واهتماماته, ولكنها محاطة بهالة من القداسة, وقبس من روح النبوة الجليلة والكريمة, ونورانيتها الباهرة. ثمة مسافة تتجلي من بين روح الزمن الديني المؤسس, وبين الزمن الفقهي واللاهوتي الذي تراكم عبر الفقهاء واللاهوتيين- المسيحيين الأرثوذكس المصريين- علي الاختلاف فيما بينهم ديانة وعقيدة وطقوسا ورموزا وشخوصا ومؤمنين.. زمن الفقهاء, جاء بعد التأسيس الديني, ثم الدولة في الإسلام, خاصة بعد وفاة الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه. من هنا جاء هذا الفقه علي تعدده ووحدة أصوله يحمل معه زمن الدعوة والفتوحات, وتنوع الجغرافيا العرقية والطبيعية والبشرية للبلدان المفتوحة, وعادات وتقاليد ورموز ومشاكل متعددة, من هنا كان ذلك جزءا من اهتمامات الفقهاء الكبار والتابعين وتابعي التابعين, ومن ثم شكلت أزمنة الفقهاء سواء في تأصيلهم للأصول, وتطويرهم لهذا العلم المتميز أساسا ركينا في الحفاظ علي الديانة والعقيدة والطقوس, ومن ثم كان علم الأصول واحدا من أهم تجليات إن لم نقل ذروة العقل التشريعي كأبرز تجليات العقل الفقهي الإسلامي, الذي تفرغ عنه العقل التفسيري والتأويلي والإفتائي والوعظي. هل شكل العقل الفقهي, والإفتائي للآباء العظام المؤسسين عائقا أمام التابعين وتابعي التابعين, وإنتاجهم علي الرغم من أن بعضهم كان ذكيا ونابها؟ هل تراكمت عمليات إعادة إنتاج الفقه المؤسس وأزمنته لتشكل زمنا آخر ربما دفع بعض السلفيين في مختلف مراحل دعوتهم إلي محاولة العودة إلي الأصول في العقيدة, والشريفة في نقائها وصفائها الأول؟ يبدو لي وأرجو ألا أكون مخطئا أن بعض الانتقادات وإعادة إنتاج بعض الآراء الفقهية الوضعية- البشرية بامتياز أيا كانت أصالتها وعمقها- هي إعادة لإنتاج زمنها الخاص, ومعها بعض من الزمن الحاضر, زمن السؤال الجديد/ القديم. وللحديث حول الزمن بقية. لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح